عن أم حسن وأمثالها

07 سبتمبر 2016
كثيرات يشبهنها (إسبر أيادين/ الأناضول)
+ الخط -

ما زالت أم حسن تقيم في حي الوعر في حمص، وحي الوعر محاصر وهي محاصرة معه. يلاحقها الجوع والخوف والقذائف. حتى الملح تفتقده المنازل الباقية. الخبز بدوره لا يصل معظم الأحيان، والكيلوغرام الواحد يصل ثمنه أحياناً إلى 20 دولاراً.

توفي زوج أم حسن منذ عدة سنوات وهي كانت تقيم في الحي مع أحد أبنائها الثلاثة. الأخير منهم وصل الآن مع عائلته إلى ألمانيا مع دفعات اللاجئين بعد رحلة برية إلى تركيا، وبحرية إلى اليونان ومنها لألمانيا. الثاني في لبنان مع عائلته، والثالث متوفٍ. قبل لجوئه إلى ألمانيا، اختفى الابن الذي كان مقيما معها، ليتبيّن بعد بحث أن المخابرات الجوية هي من اعتقلته بتهمة "مساعدة الجماعات الإرهابية". كان هدف توجيه التهمة دفع عائلته إلى دفع "المعلوم" لإنقاذ حياته. برز عدد من الوسطاء كما في كل الحروب. خلال التفاوض، طلب الخاطفون مبلغ عشرة ملايين ليرة سورية للإفراج عنه، ثم هبط المبلغ إلى خمسة. الأخ اللاجئ إلى لبنان عاد إلى سورية وتولى التفاوض. وافق على دفع المبلغ شريطة مشاهدة شقيقه حياً. كان خائفاً من أن يكون شقيقه قد قتل كآخرين ويريدون المبلغ لقاء تسليم جثمانه. باع الشقيق قطعة أرض لتوفير الملايين وشاهد أخاه. دفع المبلغ وأطلق سراحه بعد أن سقطت التهم عنه. الآن بات هذا الأخير بعيداً مع عائلته، لكن أم حسن ما تزال ترفض المغادرة حتى إلى لبنان، وتصرّ على أن تموت في المكان الذي ولدت وعاشت فيه، علماً أن معظم جدران الغرف باتت عبارة عن أنقاض متداعية.

تبدو أم حسن محاصرة ضمن حصار مزدوج. فهي محاصرة بذاكرة حياتها مع زوجها، حيث تربي أطفالها، ومحاصرة بقوات السلطة والمسلحين الموالين لها، مثلها مثل الأهالي في عشرات المدن والبلدات. على جدار عند مدخل بلدة مضايا كتب المحاصِرون العبارة التالية: "الجوع أو الركوع". الجوع حاصل، لكن الركوع لم يحدث، رغم أن كبار السن ومعهم الأطفال ذابت أجسادهم، حتى إنه لم يبق منها سوى الجلد والعظم ووجع الحياة القاسية.

تعيش أم حسن حالة مركبة من البؤس، وحيدة، وفي حديقة منزلها الصغيرة قبر أحد أحفادها الذي قتل بالقنص. تمضي أيامها بين خطر الحياة في منزل متصدع وإلى جوار القبر تنوح بصمت على شاب مضى في ربيع عمره.

أم حسن ليست هي أم حسن بلحمها وعظمها المقيمة في حي الوعر، هي أي أم حسن مهما كان اسمها ورسمها وما تبقى لديها من هيكل عظمي وبقايا صدر يتنفس. كثيرون وكثيرات يدخلون في هذه الفئة ممن يرون بيوتهم متصدعة وهم حراسها. كثيرون ممن تعرفهم أم حسن باتوا سكان مقابر مرتجلة. تنهض في الصباح الباكر لتصلي الصبح وترفع يديها المرتعشتين إلى السماء تسأل الله أن يفك كربة الناس، لكن الصواريخ والبراميل لا تتوقف عن التساقط كمطر أسود من الحقد.

*أستاذ جامعي

المساهمون