... عن "الداعشيّة" صدمة ثقافية
شكلت مشاهد الذبح وقطف الرؤوس بطاقة مرور داعش إلى العالم العربي، والعالم بأسره، وإن رأى كثيرون أنها "فزاعة" صنعها النظام السوري ونظام الملالي في طهران، تقوم بدورها ضمن خطها المرسوم في تبرير الرد الوحشي والمجازر الدموية التي يقوم بها الأسد في مواجهة الانتفاضة السورية، وكذلك في تبرير بقاء نوري المالكي على رأس السلطة حتى أمد قريب، على الرغم من سياسات التهميش والإقصاء التي اتبّعها في العراق. وباعتبارها دمية بيدهما، كان المتوقع أن تحافظ على وظيفتها أداةً لتخويف الجميع، بتقديمها بديلاً إجبارياً عن نظامي الأسد والمالكي، بتواطؤ وقبول أميركي وغربي، بيد أن خروج التنظيم عن السيناريو المُعدّ له "محلياً" وتقديم نفسه بديلاً عن أنظمة حكم في المنطقة، بعد إعلانه "دولة الخلافة الإسلامية"، استفزّ مخاوف دول كثيرة، وجاءت جريمتا قتل الصحافي الأميركي وعامل الإغاثة البريطاني البشعتين، لتكونا العنوان الرئيس من أجل بناء تحالف دولي، تقوده الولايات المتحدة، لمعاقبتها على تمردها وتماديها في اللعبة، تماماً كما فعلت في أفغانستان بعد تمرد ربيبتها "تنظيم القاعدة" عليها. ولأسباب إقليمية وحسب، فشل النظام السوري وملالي طهران في أن يكونا جزءاً من هذا التحالف.
حاول كثيرون تفكيك ظاهرة "داعش" والوقوف على أسبابها، في المستويات، السياسي والديني والاجتماعي، بيد أنها لا تتوقف عن طرح مزيد من التساؤلات، بعدما أدى انتشارها الصادم وتطورها السريع، إلى القضاء على مُسلّمات كثيرة، واكتشفنا كم هي أسوار التعايش الديني والإثني لدينا هشّة للغاية، وقابلة للانهيار في أي لحظة، كما أن التصوّر السابق، والمبني على أن التنظيمات التكفيرية تُزهر وتعيش وتمارس نشاطها "هناك" في مكان ما بعيد عن المجتمعات العربية، وليس "هنا"، في بلداننا أو بلدان جيراننا، سقط بطريقة دراماتيكية مخيفة، وبتنا نعيش في واقع مفتوح على مختلف الاحتمالات، ومستقبل مجهول المعالم والخرائط. ولعلّ أبرز الأسئلة المطروحة الآن والحال كهذه: ما هو المخرج من عصر الجنون والدماء الذي نعيشه؟ وما الذي نستطيع القيام به لإيقافه؟ فالحلول المطروحة لدى أطراف التحالف الدولي تشهد، وفقاً للمصالح التي تؤطرها، انقساماً واضحاً في الشرق والغرب. وحتى اللحظة، هنالك مَن يقول بالحل الأحادي والاكتفاء بالحسم العسكري للقضاء عليها. ومن جانب آخر، هنالك مَن يقول بضرورة مزاوجته بالحل السياسي، بدعم المعارضة السورية في إسقاط النظام ولجم التدخلات الإيرانية وميليشياتها في سورية والعراق، التي ساهمت، بشكل رئيس، في زيادة سُعار الصراع الطائفي في المنطقة برمتها.
في أحسن الاحتمالات، قد يُجدي الحل الأول، من الناحية الظاهرية، ولكنه يترك لها المجال، كي تُغيّر طريقة عملها وطبيعة وجودها، وبالتالي، معاودة انتشارها من جديد، كونه لا يعالج أسبابها المنشأة وبنيتها الحاضنة، بينما الثاني، بدوره، قد يُساهم في تقديم حل ناجع وفعال لظاهرة "الدواعش" المتطرفة، بيد أنه يبقى ناقصاً، إذا لم يترافق الأخير، من جانبنا نحن العرب، مع عملية مراجعة شاملة وبنيوية، في أعماق ثقافتنا المعاصرة، لا تكتفي بإحالة هذه الظاهرة إلى أسباب داخلية وخارجية، بطريقة سطحية، من دون الغوص عميقاً في بيئتها الاجتماعية والسياسية والدينية، أي تفكيك بنيتها الثقافية التي أوجدتها، كي نتمكن من معالجتها جذرياً. ولعلّ من أهم ما كشفه الربيع العربي في هذا السياق مدى حجم الفشل الذي مُني به نموذج الدولة العربية، من حيث التطبيق في النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية، والتي زرعت لدى مواطنيها تصوراً خادعاً ومضلّلاً عن الواقع الذي يعيشه مجتمعها، بعدما أحاطت نفسها بجوقة من المثقفين الموالين لها، وألقت سواهم من المعارضين وأصحاب الرأي الآخر في السجون أو المنافي البعيدة، واستولت على المؤسسة الدينية، ووضعتها تحت جناحيها، وكرّست بذلك ثقافة أحادية، تمنح حزبها الحاكم وقائدها الملهم هالة من القداسة؟ ولا أدلّ على هذه الحالة من التردي الثقافي، بل والانحطاط الأخلاقي في الوضع الراهن، من أبواق "محور الممانعة" ممّن غضّوا الطرف عن مجازر النظام السوري المروّعة بحق مواطنيه، وتدميره مدنهم وبيوتهم بمختلف أنواع الأسلحة، وعملية إخلائهم من الأرض السورية، بالقتل أو بالتهجير، كما تعاموا عن الأثر المدمر للتعايش السلمي بين مختلف الطوائف الإسلامية في المنطقة بسبب استقدام الميليشيا "الشيعية" من أجل القتال إلى جانبه، فقد تدّرجت مواقفهم وخطاباتهم صعوداً وهبوطاً والتفافاً حول الانتفاضة السورية، وفقاً لمقتضيات الظروف والأهداف الخاصة بهم، بدءاً بالتركيز على "المؤامرة الكونية" والعملاء المندسين، ثم انعطفوا، أخيراً، على الجرائم البشعة التي يرتكبها "داعش" وأخواته، بوصفها تنظيمات أصولية ورجعية، معادية للحداثة، وإرهاباً متفقاً عليه عالمياً، بينما لم يلحظوا القتل الذي يمارسه النظام السوري وأعوانه في الشوارع والمنازل وأقبية التعذيب، فهو يبقى مباحاً لديهم، طالما يأتي من "معسكرهم"، وربما يرونه "أنيقاً" أيضاً، لأن مَن يقوم به هم حليقو الذقن، ويرتدون بزات عسكرية!
هؤلاء المثقفون من رجال دين وسياسيين وإعلاميين ومفكرين يتحملون قدراً كبيراً من المسؤولية في تعزيز الانقسام السياسي والاجتماعي، في إطار المسألة السورية، فضلاً عن مساهمتهم الفعالة وغير المباشرة في تأجيج الصراع الطائفي والمذهبي، فمن خلال تخوينهم واقصائهم الرأي الآخر، إلى جانب تساوقهم ودفاعهم المستميت تحت مختلف العناوين عن هذه الجرائم المروعة، بما حملته من مضامين أقلوية وطائفية، أوجدوا المناخ المناسب لظهور التطرف الديني وانتشار نيرانه، حتى تكاد تلتهم بلداناً بأسرها، وهم، بإصرارهم على القيام في هذا الدور، لا يقلّون تطرفاً و"داعشية" عن أتباع البغدادي أنفسهم، ويتحملون المسؤولية الإنسانية والأخلاقية، وأيضا التاريخية، عمّا يحصل في هذه الأنحاء من المنطقة العربية.
والتحالف الدولي، أيّاً كانت حلوله وخياراته في مواجهة "داعش"، هو معنيٌ فقط بحماية أمنه ومصالحه، بينما نحن وحدنا المعنيون بالقضاء على الاثنين: دواعش "التكفير والتفكير"، ولا يمكن لأحدٍ أن ينوب عنّا في أداء هذه المهمة، وبالتالي، الذهاب نحو القول بضرورة إجراء مراجعة شاملة وعميقة للثقافة العربية المعاصرة، والوصول إلى مَواطن الخلل وتصحيحها، باتت حاجة ملحة تُمليها علينا شروط الواقع الذي نعيشه، فلم تُعد تجدي نفعاً أو تحتل حيّزاً واقعياً تلك المُسلّمات التي كنّا نختبئ خلفها، في اعتبار أن الإرهاب المتنامي في عالمنا، بكل أنواعه، ليس سوى حالة طارئة ومؤقتة، بينما هي تؤسس من الناحية الفعلية لصفة، وربما "حالة"، تسمنا، كعرب ومسلمين، عقوداً طويلة، إن لم نتدخل من أجل إيقافها، والخروج من سلبية الاستناد إلى المقولة البائسة، إن ثقافتنا العربية معافاة والإرهاب لا يُزهر في ربوعها، بينما أفصح ما بعد الربيع العربي عن وجود نوعين من أعتى أنواع التطرف الفكري والديني التكفيري، وكلاهما يعتمد على الآخر في التطور والاستمرار في مجتمعاتنا. وهذا يُحيلنا، أولاً، إلى ضرورة الاعتراف بوجودهما معاً، وإرجاعِهما إلى أصلهما الثقافي، وثانياً، النظر إلى ظاهرة "الداعشية" بحالتيها الفكرية والدينية، "كصدمة" ثقافية في جسد الشرق، تستفز قلبه وتنشّط دماءه، وتدفعنا إلى العمل من أجل حماية الإنسان العربي وثقافته الأصيلة، وارث هويتها من الماضي، وحاملها نحو المستقبل، وطوق نجاته الوحيد في الحاضر العبثي الذي يعيشه.