08 سبتمبر 2016
الهجرة وتحولات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي
يشهد الاتحاد الأوروبي موجة من المهاجرين غير الشرعيين، تعتبر الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وتقدّر أعدادهم بمئات الآلاف في العام الجاري، وصاحبتها عشرات من المآسي الإنسانية الفظيعة، والتي قرعت بشاعتها وهولها وجدان الضمير البشري في العالم كله، احتل اللاجئون السوريون عناوينها العريضة، عبر قوارب الموت، حيث يقدمون، في رحلتهم الأخيرة، كل ما يملكون من المال، وأرواحهم أحياناً، قرباناً للوصول إلى "الحلم الأوروبي" كما يصفونه، بعدما انقطعت بهم سبل الحياة في بلادهم وبلاد اللجوء الأول، حاملين فيها القليل من المتاع، والكثير من الأمل بحياة أفضل في دول أوروبا الغنية، لينضموا بذلك إلى قوافل المهاجرين من أنحاء أخرى من العالم، والتي يبدو أن الإحصاءات الرسمية والتقديرات حول أعدادهم تشهد تفاوتاً كبيراً حتى الآن، حيث أفاد تقرير إحصائي للمرصد الأورومتوسطي، أخيراً، بأن حوالي 380 ألف مهاجر وصلوا إلى الأراضي الأوروبية هذا العام، ومن المتوقع أن تصل أعدادهم إلى نصف مليون مهاجر مع نهايته، بينهم 126 ألف لاجئ سوري. بينما قفزت توقعات الحكومة الألمانية الرسمية حول أعداد المهاجرين المتوقعة إلى البلاد العام الجاري من 400 ألف إلى 800 ألف مهاجر غير شرعي في ألمانيا وحدها.
أسباب الهجرة وأنواعها:
تعتبر الحروب والصراعات الجارية في بلدان عديدة في الشرق الأوسط، والاضطرابات الأمنية والحروب الأهلية في بلدان شمال أفريقيا وغربها، فضلاً عن أفغانستان، من أهم أسباب الهجرة الحالية، وهؤلاء يعتبرون لاجئين فرّوا من ويلات الحرب والاضطهاد في بلادهم الأصلية، ويمكن أن تنضم إليهم قوافل جديدة قادمة من شرق أوكرانيا، في حال تصاعدت حدة المعارك هناك. ومن جانب آخر، هنالك مهاجرون لأسباب اقتصادية، جُلّهم من الشباب، قادمون من بلاد غرب البلقان، مثل صربيا وألبانيا والبوسنة والهرسك، وجميعهم يتوسلون الوصول إلى الأمان والرفاه الأوروبي الغربي.
أوروبا وكابوس الهجرة والتفكك:
منذ بداية ظهور أزمة الهجرة الحالية، سادت حالة من الارتباك والتردد بين دول عديدة في أوروبا حول الطريقة المُثلى للتعامل مع الأعداد المتدفقة بالآلاف شهرياً من المهاجرين، والتي تزايدت معها حدة الاعتداءات والمعاملة القاسية التي تلقّاها هؤلاء في بلدان الممر (مقدونيا ـ هنغاريا ـ بلغاريا ـ اليونان)، فضلاً عن إعلان مقدونيا حالة الطوارئ في البلاد، ونشر قواتها العسكرية، من أجل التصدي لقوافل المهاجرين، وبناء المجر (هنغاريا) جداراً من الأسلاك الشائكة لمنع المهاجرين من التقدم عبر البلاد. أثار ذلك كله ردود فعل قوية من بعض القادة الأوروبيين، حيث اعتبرتها فرنسا "تصرفات مخزية"، كما أن رفض دول عديدة استقبالهم،
والقبول بمبدأ المحاصصة وتوزيعهم على دول الاتحاد، اعتبرته المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، يُهدد "بانقطاع الرابط بين أوروبا والحقوق المدنية العالمية المرتبطة تماماً بتاريخها، والمبدأ المؤسس للاتحاد الأوروبي"، كما كشفت هذه الأزمة عن عمق الاختلال السياسي والاقتصادي بين دول شرق الاتحاد الأوروبي وغربه، من حيث بروز تناقضات حادة في طريقة التعامل مع الأزمة، وصعوبة التوصل إلى صيغة عمل مشتركة. ومن جانب آخر، اختفت ملامح الأزمة اليونانية واحتمالات خروجها من الاتحاد الأوروبي تحت الغطاء الكثيف لأزمة المهاجرين الحالية، بيد أنها، وللسبب نفسه، سوف تعود إلى الظهور، محمّلة بعبئها الاقتصادي الجديد، في حال فُرض عليها استقبال اللاجئين على أراضيها، وفق خطة المحاصصة المطروحة حالياً، كما أنه من المرجح عودة قوية للأصوات المطالبة بالخروج من "الاتحاد" في فرنسا وبريطانيا، بسبب الكساد الاقتصادي في كلا البلدين، وميل ميزان المكاسب الاقتصادية فيه، إلى بلدان بعينها مثل ألمانيا، والتي ارتفعت، في وقت سابق، مع صعود أحزاب يمينية رافضة للوحدة في تلك البلدان.
وفي الآونة الأخيرة، تزايد حضور الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة على الأرض، وبالتالي،
العامل الاقتصادي ليس السبب الوحيد الذي قد يدفع باتجاه "تفكك الاتحاد"، فأزمة الهجرة الحالية من المتوقع أن يعطيها زخماً أوسع، في حال فشلت دول الاتحاد في معالجتها بطريقة ناجحة، خصوصاً بعد تنامي المخاوف "العنصرية" على هوية البلاد وديموغرافيتها، ولعل أبرزها كانت تصريحات رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان (4 سبتمبر/ أيلول 2015)، متوقعاً تدفق ملايين المهاجرين في العام المقبل، قائلاً: في حال لم يتم اتخاذ إجراءات حازمة لإيقاف تدفقهم "سنجد أنفسنا فجأة أقلية في قارتنا". كما أعلنت دول أخرى، منها سلوفاكيا، في أواسط أغسطس/ آب الماضي، عن استقبالها بطريقة "انتقائية" للمهاجرين المسيحيين فقط "بسبب الفوارق الثقافية" مع المسلمين، بحسب تعبير الرئيس السلوفاكي ميلوس زيمن. كما أن هذه الدول وغيرها ترفض الالتزام بخطة "التوزيع العادل" للاجئين في دول أوروبا، وكل هذا يؤكد غياب موقف موحّد وآلية عمل متفق عليها ومشتركة بين مختلف دول الاتحاد حول الأزمة الحالية، والتي قد تدفع نحو مزيد من التصدع في بُنية الاتحاد والعلاقة البينية بين مختلف مكوناته.
البحث عن حلول:
أدى ثقل الأزمة وأصداؤها المدوية في جميع أنحاء أوروبا إلى البحث عن حل يستطيع المواءمة بين حاجات أوروبا للمهاجرين في سوق العمل من ناحية، والتقليل من مخاطر استمرار التصدع الداخلي والمخاوف المتنامية من تدفق المهاجرين لدى بعض دول الاتحاد، من ناحية ثانية، وقد توجهت الأنظار نحو معالجتها عبر تعزيز التعاون الأمني المشترك مع "دول الجوار الأوروبي"، كما يجري الحديث عن تشكيل قوة أوروبية مشتركة لكشف شبكات تهريب اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا وتفكيكها، ومتابعة المرحلة الثانية من حملتها في البحر المتوسط، وتطبيق إجراءات مشددة لمراقبة الشواطئ وتفتيش السفن، فضلاً عن إقامة مراكز
إيواء بتمويل من المفوضية الأوروبية في بلدان أوروبا الأمامية (إيطاليا واليونان)، لاستقبال اللاجئين في المرحلة الأولى، وإنشاء نظام لفرزهم وتوزيعهم منها إلى بلدان الداخل الأوروبي، ومعالجة "العيوب" في قوانين الهجرة المعمول بها حالياً، كما تتجه ألمانيا التي استقبلت أكبر عدد للاجئين في أوروبا نحو الحد من تدفق المهاجرين القادمين من غرب البلقان بطريقة غير شرعية، وإعادتهم إلى بلادهم باعتبارهم ليسوا لاجئين بفعل الحرب والاضطهاد. ولم تقتصر أطروحات التصدي ومعالجة الأزمة الأوروبية في إطار الداخل والحدود، بل امتدت إلى بلدان "المنبع"، فقد شملت اقتراحات تقديم الدعم الاقتصادي وتعزيز برامج التنمية في تلك البلدان، فضلاً عن اعتماد الاتحاد الأوروبي على نفوذه في غرب البلقان من الدول الأعضاء في "الاتحاد"، أو التي تسعى إلى الحصول على العضوية فيه، والضغط عليها لوضع برامج اقتصادية تحد من هجرة مواطنيها.
الخطة النمساوية:
جاء التطور الأبرز في سياق الحلول المقترحة في الخطة التي قدمها وزير الخارجية النمساوي، سباستيان كورتس، لمعالجة قضية اللاجئين (23 أغسطس/ آب)، وتشمل خمس نقاط أساسية، أهمها محاربة تنظيم داعش و(ضرورة أن يعمل الاتحاد الأوروبي على إنشاء مناطق حماية آمنة وعازلة في مناطق النزاع في الشرق الأوسط وأفريقيا). والنقطة الأخيرة قد تمثل انعطافة حقيقية في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فهي، من جهة، تُنعش الآمال التركية والائتلاف السوري المعارض في إقامة "منطقة عازلة " في شمال سورية، و تُبشّر بموافقة حلف الناتو، أخيراً، على المطلب التركي بعد رفض طويل. ومن جهة ثانية، قد يُمهّد ذلك لدور أوروبي كبير ومؤثر في الملف السوري خصوصاً، والذي احتكرته سياسة التعنت الروسي والانكفاءة الأميركية سنوات مريرة من عمر الانتفاضة السورية، ويبدو أن أصداء الخطة النمساوية وصلت إلى بريطانيا، حيث قال رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، إن بلاده سوف تتعامل مع قضية اللاجئين "بما يمليه قلبها وعقلها في تقديم المساعدة لهم، والعمل لإيجاد حل على المدى الطويل للأزمة في سورية". كما أن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، والذي يدعم إقامة منطقة عازلة في شمال سورية، قد أعلن، في 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، عن مشاركة بلاده في عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، واعتبر أن الحل السياسي في سورية يمر عبر حكومة انتقالية، لا وجود للأسد فيها.
قد تمثل هذه المواقف من القادة الأوربيين مؤشراً قوياً على توجه الأنظار نحو التعاطي بشكل أكبر في ملفات الشرق الأوسط، باعتباره مصدراً رئيسياً لأزمة المهاجرين التي تعصف بهم، وتفاقم من أزماتهم الداخلية ضمن جدران الاتحاد، بيد أن الطريق ما يزال طويلاً أمامها حتى تتبلور سياسة عامة للاتحاد، وليست مواقف منفردة من بعض الدول الأعضاء، الأمر الذي يُكسبها قوة دفع كبيرة وتأثير فعال في مجرى الأحداث في تلك الملفات، فحتى الآن لم يتم التوصل إلى خطة عمل موحدة للتعامل مع أزمة اللاجئين داخلياً والاتفاق على نظام التوزيع العادل، حيث اقتصرت الموافقة عليه من بعض الدول من أصل 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، ولعل القمة الأوروبية المرتقبة، في سبتمبر الجاري، سوف تحمل معها مزيداً من القرارات التي تكشف بطريقة أكثر وضوحاً، مدى عمق هذه التحولات المحتملة وجديتها في السياسة الخارجية الأوروبية.
أسباب الهجرة وأنواعها:
تعتبر الحروب والصراعات الجارية في بلدان عديدة في الشرق الأوسط، والاضطرابات الأمنية والحروب الأهلية في بلدان شمال أفريقيا وغربها، فضلاً عن أفغانستان، من أهم أسباب الهجرة الحالية، وهؤلاء يعتبرون لاجئين فرّوا من ويلات الحرب والاضطهاد في بلادهم الأصلية، ويمكن أن تنضم إليهم قوافل جديدة قادمة من شرق أوكرانيا، في حال تصاعدت حدة المعارك هناك. ومن جانب آخر، هنالك مهاجرون لأسباب اقتصادية، جُلّهم من الشباب، قادمون من بلاد غرب البلقان، مثل صربيا وألبانيا والبوسنة والهرسك، وجميعهم يتوسلون الوصول إلى الأمان والرفاه الأوروبي الغربي.
أوروبا وكابوس الهجرة والتفكك:
منذ بداية ظهور أزمة الهجرة الحالية، سادت حالة من الارتباك والتردد بين دول عديدة في أوروبا حول الطريقة المُثلى للتعامل مع الأعداد المتدفقة بالآلاف شهرياً من المهاجرين، والتي تزايدت معها حدة الاعتداءات والمعاملة القاسية التي تلقّاها هؤلاء في بلدان الممر (مقدونيا ـ هنغاريا ـ بلغاريا ـ اليونان)، فضلاً عن إعلان مقدونيا حالة الطوارئ في البلاد، ونشر قواتها العسكرية، من أجل التصدي لقوافل المهاجرين، وبناء المجر (هنغاريا) جداراً من الأسلاك الشائكة لمنع المهاجرين من التقدم عبر البلاد. أثار ذلك كله ردود فعل قوية من بعض القادة الأوروبيين، حيث اعتبرتها فرنسا "تصرفات مخزية"، كما أن رفض دول عديدة استقبالهم،
وفي الآونة الأخيرة، تزايد حضور الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة على الأرض، وبالتالي،
البحث عن حلول:
أدى ثقل الأزمة وأصداؤها المدوية في جميع أنحاء أوروبا إلى البحث عن حل يستطيع المواءمة بين حاجات أوروبا للمهاجرين في سوق العمل من ناحية، والتقليل من مخاطر استمرار التصدع الداخلي والمخاوف المتنامية من تدفق المهاجرين لدى بعض دول الاتحاد، من ناحية ثانية، وقد توجهت الأنظار نحو معالجتها عبر تعزيز التعاون الأمني المشترك مع "دول الجوار الأوروبي"، كما يجري الحديث عن تشكيل قوة أوروبية مشتركة لكشف شبكات تهريب اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا وتفكيكها، ومتابعة المرحلة الثانية من حملتها في البحر المتوسط، وتطبيق إجراءات مشددة لمراقبة الشواطئ وتفتيش السفن، فضلاً عن إقامة مراكز
الخطة النمساوية:
جاء التطور الأبرز في سياق الحلول المقترحة في الخطة التي قدمها وزير الخارجية النمساوي، سباستيان كورتس، لمعالجة قضية اللاجئين (23 أغسطس/ آب)، وتشمل خمس نقاط أساسية، أهمها محاربة تنظيم داعش و(ضرورة أن يعمل الاتحاد الأوروبي على إنشاء مناطق حماية آمنة وعازلة في مناطق النزاع في الشرق الأوسط وأفريقيا). والنقطة الأخيرة قد تمثل انعطافة حقيقية في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فهي، من جهة، تُنعش الآمال التركية والائتلاف السوري المعارض في إقامة "منطقة عازلة " في شمال سورية، و تُبشّر بموافقة حلف الناتو، أخيراً، على المطلب التركي بعد رفض طويل. ومن جهة ثانية، قد يُمهّد ذلك لدور أوروبي كبير ومؤثر في الملف السوري خصوصاً، والذي احتكرته سياسة التعنت الروسي والانكفاءة الأميركية سنوات مريرة من عمر الانتفاضة السورية، ويبدو أن أصداء الخطة النمساوية وصلت إلى بريطانيا، حيث قال رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، إن بلاده سوف تتعامل مع قضية اللاجئين "بما يمليه قلبها وعقلها في تقديم المساعدة لهم، والعمل لإيجاد حل على المدى الطويل للأزمة في سورية". كما أن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، والذي يدعم إقامة منطقة عازلة في شمال سورية، قد أعلن، في 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، عن مشاركة بلاده في عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، واعتبر أن الحل السياسي في سورية يمر عبر حكومة انتقالية، لا وجود للأسد فيها.
قد تمثل هذه المواقف من القادة الأوربيين مؤشراً قوياً على توجه الأنظار نحو التعاطي بشكل أكبر في ملفات الشرق الأوسط، باعتباره مصدراً رئيسياً لأزمة المهاجرين التي تعصف بهم، وتفاقم من أزماتهم الداخلية ضمن جدران الاتحاد، بيد أن الطريق ما يزال طويلاً أمامها حتى تتبلور سياسة عامة للاتحاد، وليست مواقف منفردة من بعض الدول الأعضاء، الأمر الذي يُكسبها قوة دفع كبيرة وتأثير فعال في مجرى الأحداث في تلك الملفات، فحتى الآن لم يتم التوصل إلى خطة عمل موحدة للتعامل مع أزمة اللاجئين داخلياً والاتفاق على نظام التوزيع العادل، حيث اقتصرت الموافقة عليه من بعض الدول من أصل 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، ولعل القمة الأوروبية المرتقبة، في سبتمبر الجاري، سوف تحمل معها مزيداً من القرارات التي تكشف بطريقة أكثر وضوحاً، مدى عمق هذه التحولات المحتملة وجديتها في السياسة الخارجية الأوروبية.