12 نوفمبر 2024
عنف الإرهاب وعنف العولمة
عاد الإرهاب ليضرب من جديد في قلب أوروبا، وبعيداً عن التوصيفات الأخلاقوية التي تدين في جوهرها كل فعل عنيف يستهدف المدنيين، مهما كانت خلفياتهم الفكرية والعرقية والدينية، فإن السؤال المركزي الذي ما ينفك مسيطراً: من أين يستمد فعل العنف استمراريته؟ ولماذا فشلت محاولات إدماج الأقليات العربية الإسلامية، وتذويبها في المجتمعات الغربية؟ وأين تكمن الأزمة البنيوية في التعامل مع ما يسمى إرهابا بالنسبة للدول الغربية؟
لم يكن الهجوم المنسق على "ملعب فرنسا" ومسرح "باتاكلان" حدثاً طارئاً أو معزولاً (فقد سبقه من قبل الهجوم على مقر صحيفة شارلي إيبدو)، فهو يندرج ضمن سياق عام يغلب عليه التشنج والتوتر في العلاقات الغربية مع الآخر المغاير، سواء تمثل في أقليات كبرى تقطن ضمن المجتمعات الغربية نفسها، أو مع المجتمعات العربية التي تعاني بدورها من الإرهاب، وبأشكال أخرى متفاوتة الخطورة والتأثير.
بدايةً، يمكن القول إن الصراعات الكبرى في عصرنا لا تعود، أساساً، لخلافات دينية، ولذلك تجد الأديان نفسها في موقفٍ يصعب معه أن تتمكن من حلها، من دون أن يعني هذا غياب المؤثر الديني، أو فاعليته كعنصر تحريض أو تخليق للأزمات، وهو أمر لا يتعلق بدين بعينه بقدر ما يشمل غالبية الأديان التي تتجاذب الساحة العالمية. فالأصولية تنشأ في وضع تاريخي محدد، وهي تعبير عن مقاومات مختلفة لنموذج مهيمن، يحاول فرض رؤيته القيمية للعالم عبر آليات العنف والسيطرة.
إن النظام الغربي عبر سلطويته القصوى هو الذي يخلق الظروف الموضوعية لردود الفعل القاسية والعنيفة، حيث لا يجد بعضهم في غير الإرهاب أداة لإثبات الوجود، أو الدفاع عما يعتقد أنها هويته المهددة ورموزه الدينية التي يتم المس بها، والاعتداء عليها. فالمسألة الإرهابية، إن صح التعبير، بمعناها الشامل، تجد جذورها في عوامل كثيرة متشعبة، تغذيها وتمدها بالاستمرارية والبقاء، ويمكن تلخيصها في جملة من العوامل الأساسية:
الشعور بالإحباط هو الذي يولد ردود الأفعال غير المحسوبة، والتي تجنح إلى العنف المطلق، من أجل نقل الرعب إلى المعسكر الآخر، ويرتبط هذا الإحباط أساساً بشعور لدى جزء مهم من مواطني الدول العربية، أو المنحدرين منها، بأن القوى الغربية هي التي تقف وراء حالة الظلم وغياب العدالة الذي يسود بلدانهم، فدعم الغرب أنظمة الاستبداد العربي، أو تبريرها عنف الأنظمة من أجل استمرارها في الهيمنة قد أوجد جيلاً من الناقمين على الأنظمة السياسية الغربية، فما يجري في المنطقة من فوضى وعنف، واستمرار المذابح في سورية، وقبل هذا وذاك استمرار العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني جعل المشهد يفتقد للعقلانية المطلوبة من أجل إنجاز حوار حقيقي ومثمر بين الحضارات.
تحول النظام العالمي الى أداة قهرية، تجمع بين ازدواجية غريبة، فبينما يتم التبشير بمنظومات
قيمية كونية، قوامها الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، نلاحظ على مستوى الممارسة أن القوى الغربية لا تسعى إلا إلى تحقيق مصالحها الأنانية، وتتحدث عن القيم بمكاييل مزدوجة، تتضرر منها الشعوب العربية، وهو أمر يمكن استنتاجه بسهولة، من خلال المواقف الغربية من قضايا العرب والمسلمين.
إن حالة الإحباط التي يشعر بها بعض العرب، والناجمة عن إفشال الخيارات الديمقراطية في مجتمعاتهم، وفشل نماذج التنمية المحلية المفروضة غربياً، بالإضافة إلى نموذج الهيمنة السياسي والثقافي الذي تبشر به العولمة، ويحرص الغرب على ترويجها قد أوجد مقاومات مختلفة، ولم تكن ردود أفعال المجتمعات العربية والإسلامية في العصر الحديث على هيمنة الغرب ومحاولاته للسيطرة، دائماً ردود فعل ذات طابع أصولي، بل إن الجماعات الأصولية لم تتصدر المشهد إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم تأخذ طابعاً عنفياً ضد الآخر في عقر داره، إلا في السنوات الأخيرة مع ازدياد عنف العولمة، ومحاولتها تذويب الهويات المحلية، سواء للمجتمعات العربية الإسلامية، أو حتى للأقليات الكبيرة التي تعيش في الغرب حيث كان شعار الإدماج القسري الذي تبنته فرنسا زمن حكم ساركوزي عاملاً في إثارة نزعات هوياتية، لا يمكن ضبطها أو السيطرة عليها، وكما يؤكد جان بودريار، فإن الغرب هو الذي صنع قواعد اللعبة وطورها، "جمع كل الأوراق بين يديه، فألزم الآخر بتغيير اللعبة وتغيير قواعد اللعب... ففي مواجهة نظام عالمي، يطرح إسرافه في استعمال القوة تحدياً لا مساومة فيه، يجيب الإرهابيون بعمل تكون المساومة فيه، بحد ذاتها، منعدمة ومستحيلة"، فالإرهاب لا يطرح بديلاً أيديولوجياً، بقدر ما هو بصدد توجيه رسالة دموية، قوامها أن ثمة أطرافاً تضررت بفعل السياسات الغربية، وأن ما ينبغي القيام به هو البحث عن أسباب الأزمة التي تعاني منها شعوب المنطقة، بشكل أكثر وعيا.
وفي ظل الشعور بقوة الهيمنة التي يمارسها الغرب اقتصادياً وعسكرياً وقيمياً، يتضاعف الشعور لدى الآخرين (العرب في هذه الحالة) بضرورة أن يكون لديهم نظام خاص بهم، مستقل عن مراكز القرار الغربي، ويميزهم عن الآخر، ويثبت شعورهم بهويتهم المميزة، ويزداد هذا الإحساس لدى بعض العرب الذين تضطرهم ظروف حياتهم للإقامة في المجتمعات الغربية. ولهذا، ليس من المستغرب أن ينضم كثيرون منهم إلى الجماعات الأصولية الأكثر عنفاً وتطرفاً.
الإرهاب صناعة غربية أولاً وأساساً عبر سياسات طويلة الأمد، تجد جذورها في تاريخ الاحتلال الغربي للمنطقة العربية والرغبة الدائمة في حشر الهوية العربية الإسلامية في زاوية العدو، وهو ما يخلق شعوراً لدى بعض المنتمين إليها بالتهديد، ويفضي إلى ظهور ردود أفعال لاعقلانية وتصرفات عدوانية عنيفة، وإذا اعتبرنا أن الأصولية نفسها هي رد فعل إنساني لموقف تاريخي محدد، فمن غير الممكن أن نتوقع أن تفقد أهميتها وتأثيرها، بل وظهور نتوءات عنيفة من خلالها ما لم يتبدل الموقف الغربي من المنطقة تبدلاً جذرياً. فإرهاب الأصوليات هو، في النهاية، موجود في كل مكان، أشبه بفيروس، في قلب العولمة بحد ذاتها يناهضها، وهو نتاج لها في الوقت نفسه.
لم يكن الهجوم المنسق على "ملعب فرنسا" ومسرح "باتاكلان" حدثاً طارئاً أو معزولاً (فقد سبقه من قبل الهجوم على مقر صحيفة شارلي إيبدو)، فهو يندرج ضمن سياق عام يغلب عليه التشنج والتوتر في العلاقات الغربية مع الآخر المغاير، سواء تمثل في أقليات كبرى تقطن ضمن المجتمعات الغربية نفسها، أو مع المجتمعات العربية التي تعاني بدورها من الإرهاب، وبأشكال أخرى متفاوتة الخطورة والتأثير.
بدايةً، يمكن القول إن الصراعات الكبرى في عصرنا لا تعود، أساساً، لخلافات دينية، ولذلك تجد الأديان نفسها في موقفٍ يصعب معه أن تتمكن من حلها، من دون أن يعني هذا غياب المؤثر الديني، أو فاعليته كعنصر تحريض أو تخليق للأزمات، وهو أمر لا يتعلق بدين بعينه بقدر ما يشمل غالبية الأديان التي تتجاذب الساحة العالمية. فالأصولية تنشأ في وضع تاريخي محدد، وهي تعبير عن مقاومات مختلفة لنموذج مهيمن، يحاول فرض رؤيته القيمية للعالم عبر آليات العنف والسيطرة.
إن النظام الغربي عبر سلطويته القصوى هو الذي يخلق الظروف الموضوعية لردود الفعل القاسية والعنيفة، حيث لا يجد بعضهم في غير الإرهاب أداة لإثبات الوجود، أو الدفاع عما يعتقد أنها هويته المهددة ورموزه الدينية التي يتم المس بها، والاعتداء عليها. فالمسألة الإرهابية، إن صح التعبير، بمعناها الشامل، تجد جذورها في عوامل كثيرة متشعبة، تغذيها وتمدها بالاستمرارية والبقاء، ويمكن تلخيصها في جملة من العوامل الأساسية:
الشعور بالإحباط هو الذي يولد ردود الأفعال غير المحسوبة، والتي تجنح إلى العنف المطلق، من أجل نقل الرعب إلى المعسكر الآخر، ويرتبط هذا الإحباط أساساً بشعور لدى جزء مهم من مواطني الدول العربية، أو المنحدرين منها، بأن القوى الغربية هي التي تقف وراء حالة الظلم وغياب العدالة الذي يسود بلدانهم، فدعم الغرب أنظمة الاستبداد العربي، أو تبريرها عنف الأنظمة من أجل استمرارها في الهيمنة قد أوجد جيلاً من الناقمين على الأنظمة السياسية الغربية، فما يجري في المنطقة من فوضى وعنف، واستمرار المذابح في سورية، وقبل هذا وذاك استمرار العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني جعل المشهد يفتقد للعقلانية المطلوبة من أجل إنجاز حوار حقيقي ومثمر بين الحضارات.
تحول النظام العالمي الى أداة قهرية، تجمع بين ازدواجية غريبة، فبينما يتم التبشير بمنظومات
إن حالة الإحباط التي يشعر بها بعض العرب، والناجمة عن إفشال الخيارات الديمقراطية في مجتمعاتهم، وفشل نماذج التنمية المحلية المفروضة غربياً، بالإضافة إلى نموذج الهيمنة السياسي والثقافي الذي تبشر به العولمة، ويحرص الغرب على ترويجها قد أوجد مقاومات مختلفة، ولم تكن ردود أفعال المجتمعات العربية والإسلامية في العصر الحديث على هيمنة الغرب ومحاولاته للسيطرة، دائماً ردود فعل ذات طابع أصولي، بل إن الجماعات الأصولية لم تتصدر المشهد إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم تأخذ طابعاً عنفياً ضد الآخر في عقر داره، إلا في السنوات الأخيرة مع ازدياد عنف العولمة، ومحاولتها تذويب الهويات المحلية، سواء للمجتمعات العربية الإسلامية، أو حتى للأقليات الكبيرة التي تعيش في الغرب حيث كان شعار الإدماج القسري الذي تبنته فرنسا زمن حكم ساركوزي عاملاً في إثارة نزعات هوياتية، لا يمكن ضبطها أو السيطرة عليها، وكما يؤكد جان بودريار، فإن الغرب هو الذي صنع قواعد اللعبة وطورها، "جمع كل الأوراق بين يديه، فألزم الآخر بتغيير اللعبة وتغيير قواعد اللعب... ففي مواجهة نظام عالمي، يطرح إسرافه في استعمال القوة تحدياً لا مساومة فيه، يجيب الإرهابيون بعمل تكون المساومة فيه، بحد ذاتها، منعدمة ومستحيلة"، فالإرهاب لا يطرح بديلاً أيديولوجياً، بقدر ما هو بصدد توجيه رسالة دموية، قوامها أن ثمة أطرافاً تضررت بفعل السياسات الغربية، وأن ما ينبغي القيام به هو البحث عن أسباب الأزمة التي تعاني منها شعوب المنطقة، بشكل أكثر وعيا.
وفي ظل الشعور بقوة الهيمنة التي يمارسها الغرب اقتصادياً وعسكرياً وقيمياً، يتضاعف الشعور لدى الآخرين (العرب في هذه الحالة) بضرورة أن يكون لديهم نظام خاص بهم، مستقل عن مراكز القرار الغربي، ويميزهم عن الآخر، ويثبت شعورهم بهويتهم المميزة، ويزداد هذا الإحساس لدى بعض العرب الذين تضطرهم ظروف حياتهم للإقامة في المجتمعات الغربية. ولهذا، ليس من المستغرب أن ينضم كثيرون منهم إلى الجماعات الأصولية الأكثر عنفاً وتطرفاً.
الإرهاب صناعة غربية أولاً وأساساً عبر سياسات طويلة الأمد، تجد جذورها في تاريخ الاحتلال الغربي للمنطقة العربية والرغبة الدائمة في حشر الهوية العربية الإسلامية في زاوية العدو، وهو ما يخلق شعوراً لدى بعض المنتمين إليها بالتهديد، ويفضي إلى ظهور ردود أفعال لاعقلانية وتصرفات عدوانية عنيفة، وإذا اعتبرنا أن الأصولية نفسها هي رد فعل إنساني لموقف تاريخي محدد، فمن غير الممكن أن نتوقع أن تفقد أهميتها وتأثيرها، بل وظهور نتوءات عنيفة من خلالها ما لم يتبدل الموقف الغربي من المنطقة تبدلاً جذرياً. فإرهاب الأصوليات هو، في النهاية، موجود في كل مكان، أشبه بفيروس، في قلب العولمة بحد ذاتها يناهضها، وهو نتاج لها في الوقت نفسه.