20 نوفمبر 2024
عندما يريد الشعب أن يهرب
عندما كان المتظاهرون في "حراك الريف" في المغرب يخرجون إلى الشوارع للاحتجاج، كان يُؤخد عليهم أنهم لا يرفعون الأعلام المغربية، وهو ما سهّل على السلطة اتهامهم بالانفصال، وهي تهمةٌ وجهت إليهم رسميا في بيانٍ وقعت عليه الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، قبل أن يتحوّل هذا البيان إلى صك اتهام أمام المحاكم التي دان بعضها معتقلي الحراك بتهمة التآمر على الوطن. وعلى الرغم من نفي نشطاء حراك الريف هذه التهمة الجاهزة التي كان الغرض منها عزلهم قبل الإجهاز عليهم، وتنظيمهم مسيرة ضخمة عبروا فيها عن انتمائهم وولائهم للمغرب، ظلت التهمة لصيقة بهم، ما زالت ترددها بعض وسائل الإعلام المحسوبة على جهات داخل الدولة العميقة المغربية.
الواقع أن "حراك الريف" كان مغربيا صرفا، قادتُه مغاربة، ونحت شعاراتِه مواطنون مغاربة غلبهم القهر والفقر، لكنهم ظلوا متمسكين بوطنيتهم، حتى وهم يقادون أمام المحاكم، ويدانون بسنوات سجنا نافذا. كان الغرض من إلقاء تلك التهمة على حراك شعبي خرج من عمق المجتمع المغربي تشويه صورة قادته، وعزلهم عن قاعدتهم، ومحاصرة الحراك نفسه داخل رقعة جغرافية صغيرة، للإجهاز عليه قبل أن يتمدّد إلى باقي المناطق المغربية، وكانت عدواه قد بدأت بالفعل تنتقل إلى مدنٍ وقرى، أغلبها تعاني من التهميش والإقصاء والنسيان.
لقد نجحت، إلى حد ما، "خطة" إلصاق تهمة الانفصال بحراك الريف، كما نجحت السلطة، إلى حد كبير، في إخمادِه، بعد أن اعتقلت مئات من نشطائه، وزجتهم في السجون بتهم خيالية، مثل
التآمر على الوطن، لكن ما لم يكن في الحسبان أن يأتي اليوم الذي يخرج فيها متظاهرون إلى شوارع إحدى المدن المغربية، وهم يصرخون بلغة ولكنة إسبانيتين "عاشت إسبانيا"، ويرفعون الأعلام الإسبانية بدلا من الأعلام المغربية، وهم يرددون "الشعب يريد إسقاط الجنسية".
حدث هذا قبل أسبوع، عندما خرج متظاهرون في شوارع مدينة تطوان، أقصى شمال المغرب، أغلبهم من "التراس"، الفريق المحلي للمدينة، وهم يصرخون "الشعب يريد الحريك"، أي الشعب يريد الهجرة خارج المغرب عبر طرق غير شرعية. كان أغلب المتظاهرين من الشباب، وكانوا يعبّرون، بطريقتهم الخاصة، عن مقتل فتاة مغربية كانت تَهُمّ بالهجرة عبر أحد قوارب تهريب المهاجرين، عندما أطلقت البحرية المغربية النار على القارب، فقُتلت الفتاة حياة بلقاسم، وأصيب أربعة من المواطنين، فتحوّلت مأساتها إلى شرارةٍ أجّجت المشاعر الغاضبة في نفوسٍ كثيرة، وذكّرت المغاربة بمأساة بائع السمك محسن فكري الذي قتل مطحونا داخل شاحنة للزبالة، ما أدى إلى اندلاع "حراك الريف".
وما بين حادثي مقتل بائع السمك الملقب "شهيد الحكرة"، في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2016، وحادث مقتل الطالبة المهاجرة التي لقبها الإعلام "شهيدة الهجرة"، والتي لقيت مصرعها في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، جرت مياهٌ كثيرة تحت الجسر. اعتقل مئاتٌ من نشطاء حراك الريف، وحوكم ودين كثيرون منهم، وما زال عشرات منهم وراء القضبان، وفر آخرون منهم بعد أن نفذوا بجلدهم خارج الوطن، وعادت المنطقة إلى هدوئها الخادع الذي ينبئ بهبوب العاصفة في كل لحظة، حتى استفاق المغاربة على الحادث المأساوي لمقتل "شهيدة الهجرة"، لتملأ شوارع بعض مدن الشمال المغربي مظاهراتٌ من نوع آخر، مظاهراتٌ لشباب يصرخون في هستيرية "الشعب يريد الحريك"، "الشعب يريد إسقاط الجنسية"، "الشعب يريد قوارب الهجرة"..
إنها شرائح الشعب المغربي نفسها التي خرجت قبل سنتين في منطقة الريف المحاذية لمنطقة تطوان، للتظاهر ضد الفقر والتهميش والإقصاء، واتهمتها السلطة بالانفصال. لا يطالب المتظاهرون بـ "الانفصال"، وإنما يريدون الهروب خارج المغرب، وترك الجمل بما حمل. فما الذي يدفع شريحةً من المغاربة إلى المطالبة بإسقاط جنسياتهم، ورفع شعاراتٍ تعبّر عن رغبتهم في الهروب من وطنهم؟ حاولت تحليلات كثيرة التقليل من الظاهرة، وتتهم الشباب الذين ردّدوا
شعاراتٍ تقول "تحيا إسبانيا"، ورفعوا أعلامها في منطقةٍ كان الإسبان يحتلونها، وما زالت ثغور فيها يحتلها الاستعمار نفسه، بأنهم مجرد شبابٍ غِرّ لا يفقهون في السياسة، ولا يعون حمولة الشعارات التي يردّدون، ويجهلون تاريخ منطقتهم وكفاح أجدادهم الذين خاضوا حروبا طاحنةً من أجل طرد المستعمر الذي يحمل اليوم الأحفاد أعلامه، ويمجّدون دولته. وقد بدأت أصواتٌ، متطرفة في وطنيتها، ترتفع للمطالبة بمتابعة أولئك الشباب قضائيا بتهمة الإساءة إلى الوطن. وبالفعل تمت اعتقالات في صفوف هؤلاء المتظاهرين، بشبهة التورط في أعمال شغب رافقت تظاهراتهم الهستيرية، وربما، توجه إليهم أمام المحاكم تهمة "الهروب من الوطن"!
ما حصل أخيرا في مدن شمال المغرب من مظاهرات، أغلبها عفوي، احتجاجا على مأساة الطالبة المهاجرة، عنوان لأزمة اجتماعية عميقة، تعيشها شرائح كثيرة في المجتمع المغربي، الفقيرة والمتوسطة، ويجب أن تكون بمثابة ناقوس خطر ينبه إلى ما هو آتٍ، فالظواهر الاجتماعية لا تًعالج بالمقاربات الأمنية وحدها، وقد شهدنا النتائج الكارثية لتلك المقاربة التي اعتمدت لقمع حراك الشباب المغربي عام 2011، وتم تكرارها بأخطائها نفسها في منطقة الريف وحراكها الذي ما زالت الدولة المغربية تدفع تكلفة قمعه وإجهاضه غاليا من سمعتها وصورتها في الداخل والخارج. فعندما لم تع الدولة ضرورة تغيير عقلها الأمني، غيّر المتظاهرون شعاراتهم، وبدلا من شعار "الشعب يريد إسقاط الفساد والاستبداد"، أصبح المتظاهرون يرفعون شعار: "الشعب يريد إسقاط الجنسية"، عنوانا هذه المرة على فشل الشعب، أو إحباطه، في التغيير بمظاهراته السلمية، بعد أن فشلت السلطة في إحداث التغيير المطلوب بالطرق التي اختارتها هي وقد آن الأوان لمراجعتها قبل أن يهرب الشعب!
الواقع أن "حراك الريف" كان مغربيا صرفا، قادتُه مغاربة، ونحت شعاراتِه مواطنون مغاربة غلبهم القهر والفقر، لكنهم ظلوا متمسكين بوطنيتهم، حتى وهم يقادون أمام المحاكم، ويدانون بسنوات سجنا نافذا. كان الغرض من إلقاء تلك التهمة على حراك شعبي خرج من عمق المجتمع المغربي تشويه صورة قادته، وعزلهم عن قاعدتهم، ومحاصرة الحراك نفسه داخل رقعة جغرافية صغيرة، للإجهاز عليه قبل أن يتمدّد إلى باقي المناطق المغربية، وكانت عدواه قد بدأت بالفعل تنتقل إلى مدنٍ وقرى، أغلبها تعاني من التهميش والإقصاء والنسيان.
لقد نجحت، إلى حد ما، "خطة" إلصاق تهمة الانفصال بحراك الريف، كما نجحت السلطة، إلى حد كبير، في إخمادِه، بعد أن اعتقلت مئات من نشطائه، وزجتهم في السجون بتهم خيالية، مثل
حدث هذا قبل أسبوع، عندما خرج متظاهرون في شوارع مدينة تطوان، أقصى شمال المغرب، أغلبهم من "التراس"، الفريق المحلي للمدينة، وهم يصرخون "الشعب يريد الحريك"، أي الشعب يريد الهجرة خارج المغرب عبر طرق غير شرعية. كان أغلب المتظاهرين من الشباب، وكانوا يعبّرون، بطريقتهم الخاصة، عن مقتل فتاة مغربية كانت تَهُمّ بالهجرة عبر أحد قوارب تهريب المهاجرين، عندما أطلقت البحرية المغربية النار على القارب، فقُتلت الفتاة حياة بلقاسم، وأصيب أربعة من المواطنين، فتحوّلت مأساتها إلى شرارةٍ أجّجت المشاعر الغاضبة في نفوسٍ كثيرة، وذكّرت المغاربة بمأساة بائع السمك محسن فكري الذي قتل مطحونا داخل شاحنة للزبالة، ما أدى إلى اندلاع "حراك الريف".
وما بين حادثي مقتل بائع السمك الملقب "شهيد الحكرة"، في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2016، وحادث مقتل الطالبة المهاجرة التي لقبها الإعلام "شهيدة الهجرة"، والتي لقيت مصرعها في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، جرت مياهٌ كثيرة تحت الجسر. اعتقل مئاتٌ من نشطاء حراك الريف، وحوكم ودين كثيرون منهم، وما زال عشرات منهم وراء القضبان، وفر آخرون منهم بعد أن نفذوا بجلدهم خارج الوطن، وعادت المنطقة إلى هدوئها الخادع الذي ينبئ بهبوب العاصفة في كل لحظة، حتى استفاق المغاربة على الحادث المأساوي لمقتل "شهيدة الهجرة"، لتملأ شوارع بعض مدن الشمال المغربي مظاهراتٌ من نوع آخر، مظاهراتٌ لشباب يصرخون في هستيرية "الشعب يريد الحريك"، "الشعب يريد إسقاط الجنسية"، "الشعب يريد قوارب الهجرة"..
إنها شرائح الشعب المغربي نفسها التي خرجت قبل سنتين في منطقة الريف المحاذية لمنطقة تطوان، للتظاهر ضد الفقر والتهميش والإقصاء، واتهمتها السلطة بالانفصال. لا يطالب المتظاهرون بـ "الانفصال"، وإنما يريدون الهروب خارج المغرب، وترك الجمل بما حمل. فما الذي يدفع شريحةً من المغاربة إلى المطالبة بإسقاط جنسياتهم، ورفع شعاراتٍ تعبّر عن رغبتهم في الهروب من وطنهم؟ حاولت تحليلات كثيرة التقليل من الظاهرة، وتتهم الشباب الذين ردّدوا
ما حصل أخيرا في مدن شمال المغرب من مظاهرات، أغلبها عفوي، احتجاجا على مأساة الطالبة المهاجرة، عنوان لأزمة اجتماعية عميقة، تعيشها شرائح كثيرة في المجتمع المغربي، الفقيرة والمتوسطة، ويجب أن تكون بمثابة ناقوس خطر ينبه إلى ما هو آتٍ، فالظواهر الاجتماعية لا تًعالج بالمقاربات الأمنية وحدها، وقد شهدنا النتائج الكارثية لتلك المقاربة التي اعتمدت لقمع حراك الشباب المغربي عام 2011، وتم تكرارها بأخطائها نفسها في منطقة الريف وحراكها الذي ما زالت الدولة المغربية تدفع تكلفة قمعه وإجهاضه غاليا من سمعتها وصورتها في الداخل والخارج. فعندما لم تع الدولة ضرورة تغيير عقلها الأمني، غيّر المتظاهرون شعاراتهم، وبدلا من شعار "الشعب يريد إسقاط الفساد والاستبداد"، أصبح المتظاهرون يرفعون شعار: "الشعب يريد إسقاط الجنسية"، عنوانا هذه المرة على فشل الشعب، أو إحباطه، في التغيير بمظاهراته السلمية، بعد أن فشلت السلطة في إحداث التغيير المطلوب بالطرق التي اختارتها هي وقد آن الأوان لمراجعتها قبل أن يهرب الشعب!