عمّان.. عمارة من قسمات الجبال

11 يونيو 2015
تصوير: نادر داود
+ الخط -

بعد أكثر من 500 عام من النسيان الذي خيّم عليها وطواها بين الجبال، كان لسيل الماء وهو يجرح خاصرة عمّان، موعد مع سكة حديد الحجاز التي أنشأتها الإمبراطورية العثمانية مطلع القرن الماضي بين بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية.

وما إن بدأ صفير القطار يدوّي بين المرتفعات والتلال، حتى راحت "ربّة عمّون" تتململ من سُباتها الطويل، لتجول بعيونٍ ذابلةٍ وذاكرةٍ فتيّة، على الأرجاء الشاسعة للإمبراطورية العجوز.

التجاور بين "سيل عمّان" المتحدّر من "رأس العين" منذ آلاف السنين، وبين صافرة القطار الحديث؛ شكّل مرحلةً جديدةً لمدينة الحب الأخوي "فيلادلفيا" التي كانت واحدة من أشهر المدن الرومانية العشر (الديكابوليس) قبل نحو الفي عام.

ومع التقاطع القسري بين الماء والحديد، الذي أملته المقتضيات الجيوسياسية للإقليم، بدأت المداميك الأولى للصناعة والعمران، تنهض بعمّان على أطراف الماء ومحطة القطار.

عمّان التي انقطع ذكرها طويلاً، وأهملت من سجلاّت التاريخ منذ انتهاء الحروب الصليبية، أفاقت على ذاكرتها المنسيّة تحت البساط العثماني الخامل والطويل؛ لتنهض من رُقادها على هامش الجغرافيا والتاريخ، مع قدوم الأفواج الأولى من المهاجرين الشراكسة والشيشان والأرمن والعرب، الذين بدأوا بغرس بذورها الجديدة قبيل قدوم القطار بنحو ثلاثة عقود.

فيما راحت الحربان العالميتان (الأولى والثانية)، ونكبة فلسطين ونكستها، والحروب اللاحقة في المنطقة واستحقاقاتها على غير صعيد؛ تُطرّز على وقع مُخرجاتها، النسيج الحضري والمعماري للمدينة المشرعة على أسباب التضخّم والامتداد من جميع الجهات.

ولئن كان الطابع العفوي الذي صبغ معمار المدينة وفقاً لطبوغرافية المكان، واقتصاديات العمارة، ظلّ مُتصالحاً مع منظومة القيم الثقافية للمجتمع العمّاني طوال العقود الستة الأولى من القرن الماضي؛ فإن طابعاً عمرانياً اعتباطيّاً واسع الانتشار، سوف تشهده المدينة مع الطفرة النفطية، والتغيّرات الإقليمية في العقود اللاحقة. طابعٌ سرعان ما اكتسح بالبذخ والتكّلف جلّ المساحات المترامية غرب المدينة.

وعلى الرغم من الفخامة والمبالغة في استعراض الإمكانات المادية والتقنيّة التي لازمت عمارتها الجديدة، ظلّت صيغ الإقحام والتكرار بمفرداتها وتوليفاتها المتنوعة، تؤكد عدم تجانسها مع خصوصية المكان وهويته الثقافية والاجتماعية؛ صيغٌ شديدة القسوة والعقوق ما تزال عمّان الغربية تتضخم وتتوسّع على وقْعِها منذ أكثر من عقدين.

لم تكن عمّان قبيل تأسيس إمارة شرق الأردن في العام 1921، سوى قرية مغمورة لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف. وكانت بيوتها التي لا تتعدّى الطابق الواحد، والمشيّدة من الحجر بسقوفٍ خشبيةٍ وطينية؛ تتوزّع على طرفي السيل الذي ظلّت تخشى الابتعاد عنه حتى الحرب العالمية الثانية ونكبة فلسطين.

وما إن بدأت المدينة باستقبال الهجرات الجديدة التي انعكست على بِنْيتها الاجتماعية، وأنماطها المعمارية، حتى بدأت معها على نحو عفوي، رحلة الصعود من أسفل الوادي، إلى السفوح وقمم الجبال.

ومع الرحلة ذاتها، التي رصد مساراتها ووثّق تحوّلاتها بسرديّة أدبية وتاريخية حاذقة، الروائي عبد الرحمن مُنيف (1933-2004) في "سيرة مدينة"، أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها؛ سوف تلج عمّان بوابة التحوّلات الاجتماعية والسياسية والعمرانية التي ساهمت بوتيرة متسارعة في تشكيل ملامحها الأولى منذ منتصف القرن الماضي، خاصةً مع مظاهر الثراء التي اجتاحت المدينة فجأة بعد الحرب، وعبّرت عن نفسها بوضوح شديد التحدي "إذ شيّد البعض أسواقاً، وأقام غيرهم العمارات الكبيرة. كما بدأ آخرون بشراء الأراضي الواسعة والمضاربة بها"، بحسب مُنيف.

منذ ذلك، تخطّت عمّان بقفزات واسعة حدود "القرية" بحسب وصف الأردنيين الذين كانوا يطلّون على خِواء خرائبها، من علياء حواضرهم، مثل السلط، والكرك، وإربد وعجلون. وهو ما عبّر عنه بصيغة تهكّمية، الشاعر الأردني مصطفى وهبي التل "عرار" (1889-1949) "عِلْمي بعمّان من بعض القرى- فإذا بعمّان عاصمة الأردن تحميه".

في العقود الثلاثة الأولى من تأسيس إمارة شرق الأردن، شهدت عمّان تشييد العديد من المباني التي شكلت إطلالتها المعمارية الأولى، مثل المسجد الحسيني، والمستشفى الإيطالي، وعدداً من الدارات التي كانت تُعدّ علامة فارقة في المشهد المعماري الفتي للمدينة.

ومع عودة المقدسيّين المعماريّين نظمي النابلسي، وفؤاد الصايغ، بعد تخرّجهما من جامعة فؤاد الأول (القاهرة) بداية الخمسينيات، إلى عمّان، وغيرهما من خرّيجي الهندسة المعمارية من الجامعات العربية والأجنبية؛ بدأت مرحلة تأسيس اللبنات الأولى لملمح عمّان المعماري.

امتزجت عناصر العمارة العمّانية في تلك المرحلة، مع عمارة العديد من المدن العربية العريقة، مثل القدس ونابلس ودمشق، بفعل التأثيرات التي انتقلت مع البنّائين الأوائل من تلك المدن. كما ساهم توفّر الحجر بأنواعه المختلفة في محيط المدن الأردنية، بإضفاء صبغة متجانسة على النسيج المعماري للمدينة.

وبفعل التزايد المضطرد في عدد السكان، بعد تدفّق اللاجئين الفلسطينيين، شرعت عمارة عمّان بالزحف والتمدّد من على حواف السيل ووسطها التجاري، باتجاه سفوح الجبال التي اكتست، بدايةً، مع جبلي عمّان واللويبدة، بالعديد من الشواهد المعمارية غير المألوفة من حيث هندستها ومساحتها وحجارتها.

وبعد أن غزا الإسمنت المدينة وأصبح مادة البناء الرئيسية فيها، راحت البيوت ذات الطوابق المتعدّدة، تتراكم على السفوح العارية للجبال الأخرى، مثل النظيف والأشرفية والجوفة، حتى أصبحت "خزّاناً بشرياً مكتظّا".

تزامن الزحف العمراني من وسط المدينة باتجاه الجبال المحيطة بها، مع الشروع ببناء الأدراج التي شكّلت رابطاً أفقياً وعامودياً بين جبال عمّان وأحيائها وأطرافها. واكتسبت الأدراج أهميتها من كونها المسارات الفُضلى لاختصار المسافات والتنقّل، إضافة إلى دورها الاجتماعي والحضري، بوصفها مساحات تشاركية مفتوحة على قاطنيها ومجاوريها. كما غدت، وهي تطبع على عتباتها ومصاطِبها، خُطى عمّان العمرانية؛ سجلّاً مفتوحاً على مُخرجات "التحدي والاستجابة" التي أفضت إلى هندسة الجبال.

وعلى الرغم من التوسّع الذي شهدته عمّان الناشئة طوال سبعينيات القرن الماضي، جرّاء الطفرة النفطيّة، إلا أنها ظلّت ضمن سياقها المتسارع في التوسع والامتداد، متخلفةً عمرانياً عن مثيلاتها قي الدول المجاورة.

وما إن حلّ بالمدينة عدد من المعماريين المرموقين، مثل جعفر طوقان وراسم بدران، أواخر تلك المرحلة، حتى بدأت تشهد مع بداية ثمانينيات القرن ذاته، التحديثات والتقنيات الجديدة التي تركت بصمتها على النسيج المعماري للمدينة. فكان لطوقان السبق في تشييد العمارة من الزجاج والفولاذ، وتوظيف التصفيحات الطبيعية للحجر، ومزجها مع الباطون ضمن أنساقٍ جمالية مُستقاة من الخصائص البيئية لعمّان. فيما تجلّت قدرات بدران المعمارية في طرح المفاهيم التي تجمع بين خصوصية البيئة التقليدية، وجماليات العمارة المعاصرة.

وعلى الرغم من البون المعماري الشاسع الذي يفصِل اليوم بين جهتي عمّان الشرقية والغربية، ظلّت مشهديات العمارة العمّانية وثيقة الصلة بفاعلية إنسانها وثقافته في تشكيل ملامح المكان.

فالتنوّع في الأساليب المعمارية الممهورة بصيغ الإقحام والتكّلف، والمبالغة في الفخامة الباذخة التي توشّحت بها عمّان الغربية؛ ليست سوى انعكاس لثقافة المال، وسطوة حضوره في الاستحواذ على الفضاء المادي للإنسان والمكان. بينما الانسجام الذي صبغ التركيبة الفسيفسائية لعمارة عمّان الشرقية، والكيفيات والطرق المتنوّعة في التسلق المعماري للجبال، وتأثيثها بتفاصيل الذاكرة والواقع والمخيال؛ استحالت إلى "بورتريه جماعي للعمّانيين".

التحوّلات المعمارية التي شهدتها عمّان، منذ مطلع القرن الماضي حتى الآن، تحت مظلّة التغيّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ليست سوى سردٍ واقعي، تماهى على نحو "قسري" مع سيرة مدينة، قُدّر لها بعد سُباتها الطويل، أن تُغالب بالذاكرة والتنوّع، تاريخاً من الإجحاف والنسيان.

دلالات
المساهمون