عمّان.. ثرثرة صيف خانق

04 اغسطس 2015
عمّار خمّاش / الأردن
+ الخط -

الجو ثقيل في عمّان. درجة الحرارة تجاوزت الأربعين، فلم يعد يثق المواطنون في نشرة الطقس التي تشبه في نظرهم بقية التصريحات الرسمية، والغبار يحاصرك وإن احتميت خلف أبواب مغلقة، وعلى مُصابٍ بتحسّس القصبات الهوائية الحاد -مثلي- أن يتذكّر، في هذا اليوم، أنطونيو فيفالدي الذي مات فقيراً وحيداً، وغريباً عن وطنه، متأثرأ بنوبة ربو!

استطاع الكاهن الإيطالي الشاب أن يتهرّب من قدره، متذرعاً بضيق التنفس الذي كان يصيبه في أثناء تأدية الصلاة في الكنيسة، وانتقل "سيّد الكمان" إلى حياة جديدة تتآلف مع مرضه في تجربة غزيرة قدّم خلالها أعمالاً شهيرة، من أهمها كونشيرتو "الفصول الأربعة"، لكن يبدو أنه لم يطق أغبرة فيينا في حرّ تموز، ففارق الحياة على يقين بأنّ آثاره ستلقى التقدير المناسب عقب مماته.

على وقع ألحان فيفالدي، عليك احتمال الإعياء وضيق التنفس، أو تناول أدوية الكورتيزون التي ترسلك إلى نوم تصحو منه بصداع ينبهك أن هذه العقاقير -على سوئها- لم تتوفر في عصر سابق عاشه الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنيز، وكان يوصف له الأفيون علاجاً وحيداً لعلته.

توفي صاحب "قصة مدينتين" دون الثامنة والخمسين، وسجّل معاناته الصحية مع الربو في روايته "ديفيد كوبرفيليد"، التي تختلط أحداثها بسيرته الشخصية، عن طفل ولد في أحد أحياء لندن الفقيرة وقاسى ضنك العيش والأمراض الصدرية إلى أن حظي بزواج سعيد وتقدير لمكانته، وهو نموذج حياة يستهوي صناع السينما والتلفزيون، فأنتج عنها مسلسلات وأفلام بنسخ عدة.

"سعادة" تتفق مع شخصية ديكينز الإصلاحية المتفائلة، وتتناقض مع فائض اليأس لدى غابرييل غارسيا ماركيز، في روايته "لا أحد يكاتب الكولونيل"، حين يصور امرأة مصابة بالربو والواقعية خلافاً لزوجها الجنرال المتقاعد الذي يقتات على أحلامه وأوهامه بانتظار رسالة لا تأتي بأخبار عن مكافاة نهاية الخدمة في بلد أنهكته الأوبئة والانقلابات العسكرية.

ويحدث أن يتدرج المريض في التعرّف على آلامه، إذ اعتقد الروائي الفرنسي مارسيل بروست في طفولته أنه مصاب بحساسية الربيع، التي ستبعده عن الورود فقط، إلاّ أنه أصيب بربو جلب له حياة كئيبة ومنعزلة، وموتاً بالتهاب رئة حاد.

"عزلة" حتمت عليه أن يخرقها بكتابة الرسائل، صلته مع الكون وناسه، فتضمنت توصيفاً ومجازاً حول علاقته بالسقم والصحة، وأدق تفاصيل دائه وأعراضه المتمثلة بالتعب واحتقان القصبات الهوائية والصداع ومشاكل الهضم، ووسائل علاجها المتوافرة، وهي كتابة أثارت اهتمام الأدباء والأطباء على حد سواء، ويُستشهد بها على الدوام مثالاً لمقاومة المرض، الذي دفع بروست إلى تأليف أبرز أعماله، وهي "البحث عن الزمن المفقود".

تعدّ روايته الضخمة، بأجزائها السبعة، تأسيساً للرواية الحديثة، وقد نظر إليها النقاد بداية -مثلما جرى التعامل مع رفيقه فيفالدي باعتبارهما مبدعين غير متميزين- فأصدر الجزء الأول منها على نفقته الخاصة، لكنها استحوذت لاحقاً على اهتمام أهل الأدب جميعهم، وتم تصنيفها عملاً فلسفياً يعاين الحب والطبقة الأرستقراطية في بلاده واليهود، حيث يعتبر إلى اليوم عدو اليهودية بسبب نقده المتطرف تجاهها، واستغرفت كتابتها ثلاثة عشر عاماً قضاها لم يبرح فيها فراش مرضه.

صعوبة التنفس والفشل الذي لازمه في تجاربه الأولى صنعا نجاحاً غير مسبوق، وظل الربو محفزه الأكبر على الكتابة، فيما شكل هذا المرض تفصيلاً صغيراً لآخرين ابتلوا به إلى جانب مصائب أكثر فتكاً، ومنهم الصحافي والسياسي جوزيف بوليتزر، مؤسس الجائزة ذائعة الصيت، الذي انتهى به المطاف كفيفاً تؤذيه الضوضاء والغبار العنصران الأساسيان اللذان يؤثثان عالم السياسة والصحافة.

ثرثرات تمليها علي حساسية صدرية في يوم صيف حار، ولا يفصلني عن الربو إلاّ تشييد عمارتين جديدتين في الحي الذي أسكنه، وحينها أجلس على كرسي الاعتراف الذي أقعد معظم الساردين المصابين به.

دلالات
المساهمون