وقد اعتمد نتنياهو هذا الخط مستغلاً تفجيرات واعتداءات "داعش" الإرهابية في عدد من الدول، وآخرها في تركيا، وقبلها في نيس، ليدسّ سم التحريض على المقاومة الفلسطينية والنضال الفلسطيني عبر حشره في خانة الإرهاب الإسلامي الأصولي، ومحو أي أثر لواقع الاحتلال والممارسات الاحتلالية ضد الشعب الفلسطيني.
ويحرص نتنياهو في سياسته هذه، على الترديد والادعاء بأن "الحرب هي بفعل القيم المشتركة بين إسرائيل والدول الغربية". وزاد عليها أخيراً الدول التي يطلق عليها مسمى "محور الدول السنية المعتدلة"، بحسب توصيفه.
لكن محاولات نتنياهو الزج بـ"داعش"، لم تلق في إسرائيل نفسها آذاناً صاغية. وبدا واضحاً أن محللين ومراقبين في الصحف ووسائل الإعلام يرفضون هذه المقولة ويردون العملية إلى انتفاضة الأفراد، وإلى واقع الحياة السائد في القدس المحتلة والقرى الفلسطينية التي ضمتها إسرائيل عنوة إلى منطقة نفوذ القدس، بعد الاحتلال عام 1967، وحولتها إلى أحياء مقدسية يعيش سكانها تحت وطأة ممارسات احتلالية، تتمثل في الهدم ومنع السكان من البناء والقمع العنيف للتظاهرات والاحتجاجات فيها. وقد أعادت عملية أول من أمس، مرة أخرى ومن جديد، التأكيد أن القدس المحتلة، وللدقة القرى والأحياء الفلسطينية في الشطر الشرقي من القدس، والتي استكمل احتلالها في حرب يونيو/ حزيران عام 1967، لا تزال تعامل، خلافاً للادعاء الرسمي، باعتبارها أراض محتلة يسكنها أناس معادون، حتى لو حصلوا على "بطاقات هوية زرقاء ومنحوا مكانة ساكن مقيم". وقد أفاد هذا الأمر إسرائيل لغاية الآن، في الدعاية ليس أكثر، لكنه في الوقت نفسه أبقى على جذوة المقاومة والرفض الفلسطيني لمحاولات الاحتلال بعد خمسين عاماً، التصرف وكأن أهالي القدس المحتلة باتوا سكاناً عاديين في إسرائيل (صحيح أنهم ليسوا مواطنين وبدون جنسية) لكنهم في منزلة بين المنزلتين.
وفي سياق رفض مقولات نتنياهو بشأن "داعش"، فقد اعتبر مثلاً المحلل للشؤون الأمنية في صحيفة معاريف، يوسي ميلمان، أن "داعش" لم يكن من أوجد هذا النمط من العمليات، في إشارة إلى عمليات الدهس، على الرغم من أن التنظيم قد طور هذا النمط الذي ظهر أول مرة أصلاً في أيام الانتفاضة الأولى، وإن كان منفذو العمليات الفلسطينية قد استخدموا في عملياتهم مركبات صغيرة، بداية، ثم سيارات تجارية وحتى الجرافات.
ولم يفت ميلمان القول إن عملية أول من أمس، على الرغم من أنها أوقعت عدداً كبيراً من القتلى مقارنة بعمليات سابقة، إلا أنها "حملت الخصائص والمواصفات نفسها للعمليات التي نشهدها منذ اندلاع انتفاضة الأفراد".
من جهته، اعتبر نير حسون، من صحيفة هآرتس، أن تحميل المسؤولية لتنظيم داعش، كما فعل نتنياهو، يخدم جيداً الرسالة التي يسعى الأخير لتمريرها للعالم، وهي أن القدس كباقي مدن العالم الغربي، برلين ونيس، مدينة "تواجه الإرهاب الإسلامي المتطرف"، أي "قوة الشر غير العقلانية نفسها التي لا يوجد دافع لنشاطها ولا علاقة لها بالاحتلال أو بسياسات إسرائيل، بحسب ما يسعى نتنياهو للترويج له".
وفي السياق، لفت حسون إلى أن نتنياهو، على الرغم من ذلك، أعلن أنه تم فرض طوق على قرية جبل المكبر. وأشار حسون إلى أن من يريد المساواة بين برلين ونيس والقدس، لا يمكنه أن يتحدث عن فرض طوق على جبل المكبر، حيث يعيش أربعون ألف فلسطيني بدون حقوق مواطنة وتحت وطأة حكم الاحتلال.
عجز عن مواجهة العمليات وانعدام الردع
وإلى جانب اهتمام نتنياهو بمحاولة إحالة منفذ عملية الدهس في القدس، الشهيد القنبر، إلى الإسلام الأصولي والتأثر بـ"داعش"، فقد حاول رئيس وزراء الاحتلال، عبر الإعلان عن فرض الطوق الأمني على جبل المكبر، وإعلان المجلس الوزاري المصغّر للشؤون السياسية والأمنية في إسرائيل (الكابينت) عن قرار عدم تسليم جثمان الشهيد لذويه، وقرار هدم منزل عائلته، الإيحاء بوجود خطة إسرائيلية لمواجهة العمليات الفردية، وهو ما نفاه طيلة اليومين الماضين عدد من العاملين السابقين في جهاز الأمن العام "شاباك". وأعلن هؤلاء، عبر عدد من المقابلات الصحافية، أنه ليس بمقدور قوات الاحتلال وأجهزته الاستخباراتية الوصول إلى منفذ العمليات الفردية، بدون توفر معلومات استخباراتية، ومثل هذه المعلومات تتوفر بشكل خاص في حالة وجود خلايا منظمة وليس في حالة العمليات الفردية التي لا يمكن التنبؤ بها.
ويبدو الاحتلال عاجزاً بمواجهة العمليات في القدس المحتلة، خصوصاً مسألة وصول الفلسطينيين إلى مناطق الاحتكاك، أو حتى الأحياء الغربية والجنوبية للقدس، وذلك بفعل منح سكان القدس المحتلة والقرى التي ضمتها إسرائيل للقدس بطاقة هوية زرقاء، ومكانة مقيم، ما يعني أيضاً حيازتهم لرخص قيادة سيارات ذات لوحة صفراء، وهو لون لوحات السيارات الإسرائيلية، وقدرتهم على الوصول إلى كل مكان في القدس المحتلة، لا سيما أن القرى التي تم ضمها للقدس، بعد الاحتلال، تحيط عملياً بالبلدة القديمة ومحاذية ومتداخلة أحياناً، كما في حالة جبل المكبر القريبة والمحاذية لحي أرمون هنتسيف، أو قرية العيساوية المحاذية للتلة الفرنسية، وبيت صفافا المحاذية بل والمتداخلة، بشقيها الشرقي والغربي، مع حي جيلو الاستيطاني، جنوبي القدس، على طريق بيت لحم.
لكن أكثر ما يؤرق حكومة الاحتلال في مواجهتها لهبّة القدس أو انتفاضة الأفراد، هو حقيقة غياب الردع، بالرغم من تكرار إعلان حكومة الاحتلال والكابينت بعد كل عملية عن قرارات موجعة للفلسطينيين، مثل هدم بيوت منفذي العمليات، أو حرمان عائلاتهم من لم الشمل، والتهديد بإبعادهم إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقد لفتت عميرا هيس، في صحيفة هآرتس، إلى أن مثل هذه الإجراءات لا تردع الفلسطينيين الذين يقررون تنفيذ عمليات. وقالت إنه من الواضح والأكيد أن منفذ عملية أول من أمس، فادي القنبر، كان يعلم أن بيته سيهدم بعد تنفيذه العملية، لكن كغيره ممن سبقه من منفذي عمليات دهس، كعلاء الجمل، من جبل المكبر، لم يرتدع عن تنفيذ العملية، ما يثبت عملياً وعلى أرض الواقع غياب عامل الردع الإسرائيلي وفق الإجراءات المتبعة حالياً.
وبالفعل على مدار العامين الأخيرين، فإن الخطوات العقابية التي اتخذها الاحتلال في القدس المحتلة، وفي محافظة الخليل، مثل فرض طوق أمني ونشر كتل إسمنتية عند محطات انتظار الحافلات ونصب الحواجز، لم تؤت النتائج المرجوة منها، لا سيما في ظل المبنى الطبوغرافي لمدينة القدس المحتلة مثلاً، وتداخل الأحياء الفلسطينية والقرى التي ضمها الاحتلال مع أحياء يهودية واستيطانية مثل جيلو والتلة الفرنسية. وبالتالي فإن سد مداخل الأحياء الفلسطينية أو وضع حواجز شرطية مختلفة وتعزيز تواجد أفراد حرس الحدود وعمليات المداهمة، كان يؤدي إلى عرقلة مسار الحياة "الطبيعي" في المدينة، ولو بفعل عدم قدرة العمال الفلسطينيين العاملين في القدس مثلاً على الوصول إلى أماكن عملهم، ما وجه ضربة لاقتصاد المدينة وزاد من أجواء "الحرب" والطوارئ، ما دفع الإسرائيليين عموماً إلى محاولة تقليل وصولهم للمدينة.
من شأن تحركات حكومة الاحتلال، في ظل تأكيدات نتنياهو أن الحكومة ستتخذ "إجراءات وقائية" كالكتل الإسمنتية، أن تؤدي على المدى المباشر، إلى إعادة نوع من الطمأنينة للإسرائيليين في القدس المحتلة، وقد تخفف أو تحول دون تصعيد جديد، لكن ليس بمقدورها بكل الأحوال منع أو إحباط عملية فردية إضافية، بل قد تؤدي المداهمات وعمليات التفتيش وسد مداخل الأحياء الفلسطينية إلى نتيجة عكسية كلياً، وأن تفجر احتكاكات بين الفلسطينيين وحرس الحدود الهبّة الفلسطينية وبزخم أكبر من جديد.