على قيد الحياة..أغنيات الصين الحزينة!

09 اغسطس 2015
(الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2015)
+ الخط -

متأخراً بعض الشيء، أطلّ الروائيّ الصيني ذائع الصيت يو هوا على قرّاء العربية، عبر رواية "على قيد الحياة" التي صدرت هذا العام بترجمة عبد العزيز حمدي، عبر سلسلة إبداعات عالمية التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت. فطبيب الأسنان المولود في هانتشو الصينية، (1960) كتب أكثر من عشر روايات، أبرزها "مسافر في الثامنة عشرة من عمره"، و"هتاف وسط الأمطار"، و"الأشقّاء"، و"اليوم السابع". وترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة أجنبية، كما حصل على العديد من الجوائز في إيطاليا وفرنسا، إضافة إلى موطنه الصين.

غير أنّ هذا الولوج المتأخر إلى العربية، لم يكن بحجم الانتظار، فقد اصطدم للأسف برداءة جليّة في الترجمة، أفقدت الرواية الكثير من ألقها، ولا يملك القارىء المضطر لقراءتها بالعربية سوى غض الطرف ما استطاع عن تلك الجمل الفاترة والمعطوبة التي اختارها المترجم لينقل نصاً نابضاً بالحياة.

تحكي الرواية قصة شاب يجول الأرياف لجمع الأغاني الشعبية، لكنه في أثناء ذلك لا يفوّت رصد كل التفاصيل المهملة التي تعترض طريقه، دون أن ينتبه لها الآخرون. ففي الوقت الذي يلتقط كل شاردة وواردة من أفواه القرويين، يلاحظ كم تبدو ذاكرتهم ضعيفة، وهم يرمونه ببضاعتهم: "يعلم القرويون آنذاك أنّ راوي القصص المنسّقة ومطرب أغاني التزلف والتملّق قد غشي قريتهم مرة أخرى. وفي الحقيقة فإن تلك القصص والأغاني انبثقت من داخلهم وتعلمتها منهم، حيث أنني أفطن إلى كل ما يستحوذ على اهتمامهم".

يمضي السرد بضمير المتكلم على لسان الشاب، قبل أن يتفرّع بضمير الغائب إلى خطين متوازيين، بحلول اللحظة الفارقة حين يلتقي كهلاً فقيراً لا يُثير الانتباه يدعى فوقوي، ولأن الشاب يملك عيناً راصدة يشعر أن الرجل يُخبىء حكاية تستحق عناء تقصيها. يبدأ ذلك من البقرة الوحيدة التي تلازم الكهل ويناديها بأسماء عدة، وأمام استغراب الشاب تأتي الإجابة الغريبة: "أُطلق على البقرة عدة أسماء خشية أن تدرك أنه لا يوجد سواها يحرث الأرض، أريدها أن تشعر بالغبطة حقاً وتحرث بهمة ونشاط عندما تسمع أنّ هناك أبقاراً أخرى تضطلع بهذا العمل أيضاً". هذه الإجابة سرعان ما تضعف حجتها، مع تكشّف الحكاية، فيكبر السؤال إن كان الرجل بالفعل يحتال على البقرة أم أنه يحتال على نفسه وقد غدا وحيداً شريداً. خاصة حين يثبت أخيراً على اسم واحد للبقرة، هو فوقوي أيضاً، وكأنه بمنح البقرة اسمه يودّ لو أنه أكثر من شخص تتبدد معهم هذه العزلة التي تُحيط به.

يستمع الشاب إلى قصة الكهل فوقوي الطويلة، ورحلته من الثراء الفاحش إلى الفقر المدقع بعد أن جرده القمار من كل ما يملك، لكن تلك الرحلة تمرّ أيضاً على وجه الصين الكالح إبّان الثورة الثقافية التي أعلنها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ على البرجوازية 1966، فدمّرت البلاد وجرّتها إلى حافة الحرب الأهلية. إنها الخيبات المتوالية التي يصنعها بإتقان مبهر القادة الموهومون بالعظمة والفرادة، فيدفع ثمنها المعدمون والمسحوقون من أعمارهم وأحلامهم. وقتها كان الجميع يكدّ ليوفّر قوت يومه دون جدوى حتى تبخّرت الوعود أمام سطوة الواقع: "البقرة تحرث الأرض والكلب يحرس البيت والراهب يقوم بالاستجداء والديك يعلن انبلاج الفجر، والمرأة تضطلع بالنسيج. أتوجد بقرة لا تحرث الأرض؟ تلك حقيقة منذ الأزل، يا بقرة انطلقي للأمام".

ينتبه الشاب كم هو محظوظ بهذا الطاعن في السن والمحتفظ في الآن نفسه بذاكرة حديدية: "لم أقابل رجلاً لا يمكن نسيانه مثل فوقوي. حيث يتذكر بجلاء شديد، كما يتمكّن من شرح ذاته بدقة وعناية. إنه يعد نموذجاً للذين يستطيعون إدراك حياتهم الماضية. هو يستطيع أن يتذكر بدقة مشيته في عنفوان شبابه، هو يتمكن من معرفة ذاته، وكيف أصبح عجوزاً هرماً. وفي الواقع إن لقاء مثل ذلك العجوز يعد أمراً صعباً لأن الفقر عادة سيفسد عليه ذاكرته، فيغدو لسانه مثل قطعة من الخشب، والابتسامة الحائرة ستعلو محيّاه. مثل هؤلاء تعوزهم الحماسة إزاء سيرتهم الذاتية".

تحتشد قصة فوقوي بالفواجع، فهو يفقد أباه، ثم أمه، التي ذهب يجلب لها طبيباً فقبضت عليه السلطات وأرسلته إلى ساحة الحرب، حيث يقترب من الموت كثيراً دون أن يفقد إيمانه بالنجاة: "أنا شهدت حروباً كثيرة، وأقول لنفسي كل مرة، أريد الحياة حتى إذا متّ. لا يمكن لك أن تموت إذا كنت ترفض الموت".

هذه الرغبة العارمة في الحياة تنقذه، لكنها لا تفعل إزاء عائلته التي يفقدها فرداً تلو الآخر. يرى بعينيه كيف تتقلّص العائلة الممتدة لشخصه الوحيد، محمّلاً بما لا يُطيق من الذكريات الموجعة.

إذن "على قيد الحياة"، هي رواية لا تشذّ عن معظم أعمال يو هوا التي يحضر فيها الموت بقوة، لكنه في الوقت نفسه يغدو البيئة الخصبة لانبلاج الحياة. وهي لعبة بات يُتقنها هوا لفرط تكرارها، ومع هذا، فهو في الوقت عينه، لايزال قادراً على أن يفاجىء قارئه في كل مرة.

(روائي أريتري)
المساهمون