على قمة نيوهامشير

07 يونيو 2015
عمل فني ليوسف عبدلكي(العربي الجديد)
+ الخط -
يرى جورج باطاي أن مشكلة الإنسان لا تكمن في القلق، فهو أحد سمات الحياة الإنسانية، ولكن في القدرة على التغلب عليه. لكن حينما تصبح حياة الفرد كلها مسيجة بالقلق، آنئذ ليس أمامك سوى أن تتعلم كيف تتعايش معه. كيف تحياه كجزء من كينونتك. تتغلب عليه كي يكون أحد مبادئك في الحياة. أن يكون شعورك الأبدي بالاهتزاز وعدم اليقين من كل شيء. هو ذا المنفي في اللامكان.. ليست له القدرة على هذا التغلب، لأنه لم يعد له من مبرر للوجود سوى أن يجعل من حياته ”قلقا“ دائما لا حدود له. عن أية طمأنينة يمكنك أن تتحدث أيها الرحالة في المنافي، أو أن تبحث عنها وتجدها من غير موت! تعبر الطرق والغابات والمدن، وتدخل البلدات التي تأسست على أنقاض حكايا الهنود الحمر، فيسألك الجميع، من أنت؟ ومن أين جئت وإلى أين أنت ذاهب؟ لكن هذا ما يحدث معك حتى في مسقط رأسك.
تذكر تلك القرية العزلاء، عين الدفالي، وتلك البلدة الكارثية التي اسمها أحد كورت، ويوم زرتها بعد خمسة وثلاثين عاما كي تستخرج نسخة من حالتك المدنية...وووجهت بخطأ في سجلك.. كان عليك أن ترفع دعوى كي تصحح اسمك.. كيف عشت خمسة وثلاثين عاما باسم خطإ.. كيف احتملت أن تكون اسما بزيادة ونقصان في نفس الصحيفة.. أليس وضعك الآن أفضل، قد تصبح كَلِدْ عوض خالد.. لكنك لست ملزما بتصحيح خطإ علق باسمك.. يبدو أن مأساتك تتجذر في اسمك قبل لغتك، ثم في انتمائك المهدور.. فلا أنت من هناك ولا من هنالك.. من أنت؟ جزء من القصر الكبير وآخر من عين الدفالي، وآخر من أصيلة وما تبقى من طنجة وهذا الشمال الأميركي الذي لم أفلح في كتابة تاريخ لي فيه.. تكتشف، بعد أربعين عاما، أنك مجرد شظية من شظايا عائلة تشتتت في بلاد الله كلها. من قمم الريف، ولغة الأمازيغ، إلى لهجة سهول الغرب، ولكنة طنجاوية تشدد على اللام.. وتتطلع إلى ما وراء المحيط.. ثم تهون من خطورة أمرك في هذا العالم وتغامر في دخول البلدات النائية.. وتتساءل بأسى: «حين يحيونني في القرى والبلدات النائية في جبال نيوهامشير أو فيرموت.. أذلك أدب واحترام أم خشية وحذر..!».
يصعب عليك أن تجيب.. وحين تصادف المقابر تقتنع أكثر أن لا مكان لك هنا.. ثم تغادر حتى يستقر بك الترحال في المآوي.. فنادق لم تربط بها ألفة أبدا. مسابح لم تتذوق طعمها أبدا. ثم تنام كعادتك بدون حلم..! تغادر، ثم تراجع خرائط الرحلة وتنطلق... وإذا حدث أن استوقفك حراس البلد فتشوا حقائبك وسألوك عن محتوى مذكراتك ولماذا تخلط العربية بالإنجليزية.. لا أحد سيقول لك عذرا عن شتاتك اللغوي.. لا أحد سيقول لك عذرا عن مأساتك في الشتات.. ولا أحد يعرف أن يدك اليمنى صارت كإبرة الطابعة القديمة.. تكتب يمينا ويسارا، صعودا ونزولا وترتعد الكلمات كالزئبق لضغط الحركة.. لا أحد سيفهمك وسيفهم معناك ودمارك الداخلي.
وإذا ما تحدثت إلى الجالس جانبك في حانة عتيقة، وانتشيت قليلا وحدثته عما يجول في خاطرك، سيعطف عليك بنصيحة مراجعة طبيب كي يعطيك أقراصا تساعدك على ابتلاع هذه الحياة.. لا أحد يا صديقي..لا أحد! نعم أنت صديقي الوحيد في هذا الممر الطويل الضيق الذي يسير بك نحو المهاوي. لا أحد سواي، أنا الذي أنا هو ”أنا“، سيهتم بهلوساتك وما وجدته من عبارات ونصوص كتبها من سبقوك إلى هذه المرافئ المهجورة. تظل تفتش عن أشعة الحياة التي لا تظهر إلا بين زمنين. عند طلوع الفجر وغروب الشمس. وكأن نهارك خلق كي يعدد من صراعاتك وقلقك. صارت عاداتك وتأملاتك مرآة مزاجك الذي تعصف به كما تشاء. صار اليوم سجلا تقيد فيه ما فكرت فيه وأنت لا تعلم ما تفعل.. صرت ما لم تكن ترغب فيه.. وصرت مسكنا ومأوى.. صرت حياة تسكن جسدا لا يرى إلا داخله.
المساهمون