على ضوء نكباتنا العربية

18 مايو 2015
"كوفية للأسرى"، رنا بشارة
+ الخط -

مع الثورة السورية، لم تغب فلسطين عن البال، وإن كانت أقصيت بفعل الوجع السوري درجة إلى الوراء، الأمر الذي جعل حضورها في خضم الحدث السوري، مترافقا مع الشعور بإثم الخيانة، إثم من خان حبيبته؛ قضيته الأولى.

أليست هي قضية العرب المركزية؟ أما زالت كذلك بعد تتالي النكبات العربية: بغداد، دمشق، صنعاء، بيروت، طرابلس.. في الوقت الذي ترزح فيه البلدان الباقية في نكبة الاستبداد المزمنة؟ هل قلنا نكبة الاستبداد؟ ألم نكن نعشها سابقا؟ لِمَ لم نكتشف نكبتنا الاستبدادية إلا متأخرين، وهل كان غرقنا في قضية فلسطين ونكبتها الدائمة على حساب نكبتنا الخاصة؟

هل كانت فلسطين طريق هروبنا من مواجهة دكتاتورنا، أم أن دكتاتورنا ضحك علينا وأقنعنا أن تحرير فلسطين هو الطريق الوحيد إلى الحرية والديمقراطية و"بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد"، لنحصد كل هذا الخراب؟ بعد أن أصبح لكل منا نكبته، فلسطينه، بعد أن كان لنا فلسطين واحدة، نكبة واحدة من "المحيط إلى الخليج" وفق مفردات البعث!

ولكن، هل يمكن فصل النكبات عن بعضها؟

لم تكن الثورة السورية، والثورات الأخرى بطبيعة الحال، رغم غرقها في الشأن الداخلي المحض، إلا امتحاناً قاسياً وقراءة نقدية جديدة وقاسية لمسار طويل طالما احتلت قضية فلسطين واسطة العقد فيه، مرة بفعل الحضور القومي القوي لدى الشعب السوري، إذ كانت النكبة مؤثراً فاعلاً في الحياة السياسية السورية، إلى درجة أنها المسمار الذي دق إسفين حكم الكتلة الوطنية والبرجوازية التقليدية في جمهورية الاستقلال، لتصعد على ظهرها الأحزاب القومية الراديكالية التي جعلت من تحرير فلسطين أولوية لها، ومرة بفعل استخدام السلطة "القومية" سلعة "تحرير فلسطين" لتخدير الداخل والتسلّط عليه، بدلاً من تحريره ليكون مؤهلاً لتحرير فلسطين.

مع هذا الحضور القوي لفلسطين في الذاكرة السورية، وصل "العقل السوري" حدّ أن تصبح فلسطين المعيار الذي تقاس به كل الأمور، مرّة بفعل إيمان قسم كبير من السوريين بذلك، ومرة بفعل إيديولوجية السلطة التي علّقت كل شيء على مشجب إسرائيل، وأجلت كل إصلاح إلى أن تتحرر فلسطين ونمحو عار النكبة وذلّ النكسة! فأصبح الداخل السوري يقاس ويفكر به على إيقاع الحدث الفلسطيني.

خلال مسار الثورة السورية وعلى وقع أحداثها، كان البنيان النظري والعملي لهذه المسألة يتهدّم في نفوس السوريين، الذين اكتشفوا أن "جيشهم الوطني" مستعد لتحرير سورية منهم ومن كل فلسطيني، وأن "المقاومات" التي دعموها هنا وهناك، لم تكن إلا مقاومة لحلمهم بالحرية، وأن السياسيين والمثقفين والمغنين الذين يريدون تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ليسوا أكثر من جوقة تطبّل للمستبد، جوقة ترى في فلسطين مجرد قضية لا بشر لها، وفي الشعوب الأخرى مجرد وقود يجب أن يفنى لتبقى راية القضية مرفوعة.

فليمت الشعب السوري واليمني والعراقي والفلسطيني طالما أن النظام الرافع لواء القضية صامد ليحرر لنا فلسطين! دون أن يرى هؤلاء أن من هجّر من سورية والعراق واليمن على يد الدكتاتوريات يوازي أعداد فلسطيني الداخل والخارج معاً! وأن ما قتل على يد الدكتاتوريات أكبر بما لا يقاس بما قتل على يد المحتل الإسرائيلي، وأن طرق التعذيب والقتل و شروط الاعتقال (نرى المعتقلين الفلسطينيين على الشاشات وفي المحاكمات، هل يمكن لأحد أن يرى معتقلاً سورياً أو يعرف مصيره!).

لنعرف من كل هذا أن مثقفينا، "الممانعون تحديداً"، تحكمهم أيديولوجيا القضية أكثر من القضية، بعيداً عن المعرفة التي يجب أن تكون شرط كل قضية.

الحصار والتجويع والقصف والاعتقال والحواجز التي عاش في ظلها السوريون (ولا يزالون) خلال مسار ثورتهم، جعلت منهم فلسطينيين بطريقة أو بأخرى. وخلال معاناة السوريين لما سبق أن عاشه وعانى منه الفلسطينيون، كانوا يقارنون محنتهم على ضوء المحنة و يشعرون بالخجل وقسوة الأيديولوجيا وسهولة رمي الاتهام وتنظيرهم السابق على الفلسطينيين، حين يرميهم اليوم الآخرون بما سبق أن قالوه هم ضد فلسطينيين اختلفوا معهم في الرأي! إنه الاكتشاف المعمّد بالدم والخجل.

هذا غيض من فيض، مما جال في أذهان السوريين وهم يراقبون سقوط "المسألة الفلسطينية سورياً" وتهتك خطابها، إذ كانت أعمدة الهيكل الأيديولوجي تهدّمت على وقع دم السوريين المسفوح على نكبة المقاومة وفلسطين في آن، دون أن يعني ذلك أن السوريين نسوا فلسطين، وأن فلسطين لم تكن حاضرة في الموضوع السوري الذي نراه مكثفاً في مخيم اليرموك، إذ يدرك السوريون جيداً أن إضعاف سورية وتشتيت الفلسطينيين لإلغاء حق العودة وتفكيك الدولة السورية، هو هدف يصب في مصلحة إسرائيل أولاً وآخراً، وأن نظامهم ما كان ليصمد لولا "الرضى الإسرائيلي" الذي ينظر بعين الغبطة إلى تلميذ فاقه إجراماً، وهو يدمر "قلعة الصمود والتصدي" بيديه.

يبدو أننا كنا نحتاج لنكبات عربية كبرى، كي يستقيم وعينا وتفكيرنا بالنكبة الفلسطينية ليمشي على قدميه بدلاً من رأسه. آن لنا بعد كل الدماء أن نفكر بنكبة فلسطين واقعياً، عبر إحلال العقل مكان الأسطورة، والمعرفة مكان الإيديولوجيا، والشعب مكان القضية، والحرية الوطنية طريقاً لتحرير فلسطين، بدلاً من "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، علّنا بذلك نستعيد حريتنا لنبدأ طريق غسل عارنا من نكبتنا الطويلة، ولنعيد الحلم إلى أصحابه، ولتعود صديقتي إلى فلسطينها ويرموكها في آن.


(كاتب سوري/ بيروت)

دلالات
المساهمون