يُحدّد رولان بارت، بكلماتٍ واضحة ومباشرة، واحدًا من شروط الكتابة الجيّدة: يجب على النصّ الذي تكتبونه لي أن يعطيني الدليل بأنّه يرغبني. وهذا الدليل موجود: إنّه الكتابة. ويوصّف بارت في كتابه "لذّة النص" الكتابة بأنّها علم متعة الكلام. لكن لنا أن نبحث عن روابط أخرى تجعل القارئ مقيّدًا إلى نصٍ ما من دون سواه.
لربما كانت الكتابة من أكثر المسائل التي تحتمل الأذواق، إذ إنّ النصَّ الذي يفتن أحدَهم قد يراهُ آخر نصًّا عاديًا. وهنا أقصد القرّاء الذين يسلّون أنفسهم بالقراءة؛ أولئك الذين يقرأون الكتاب اعتبارًا من تجاربَ شكّلتهم من غير أن يكونوا واعين لها، لا الباحثين أو النقّاد الذين كثيرًا ما يتّفقون على ما يجعل النص نصًّا جيدًا أو يقدّم إضافة إلى حقله الإبداعي.
القراءة لدى الناقد عادة ما تكون تمحيصاً لشكل، وجمع أدلّة بغية مساءلة الكاتب إن كان قد تمكّن من أدوات محدّدة، واستطاع إدارة النص بما يصنعه من حبكة وشخصيات. الناقد قادر على فكّ صلات النص معه مهما بدت قويةً، وله القدرة على القراءة المحايدة التي تُشرّح العمل وتعيده إلى عناصره مثلما يفعل عالم الأحياء وهو يعيد أعضاء الجسد إلى وظائفها؛ فالقلب بالنسبة إلى عالم الأحياء هو الآلة التي تدفع الدماء إلى الأطراف، وبالنسبة إلى الناقد هو موضوعٌ، يَنظرُ إلى الطريقة التي استخدمه فيها الكاتب لا أكثر.
إنّه يكتفي بمهارة الكاتب في التعبير عن شؤون القلب، أمّا بالنسبة إلى القارئ فهو قصّة عاطفية يتفاعل معها بحسب تجاربه. لكن وأخيرًا بالنسبة إلى العاشق، فالقلب هو مسكن المحبّ. إذًا، المسألة برمّتها تتلخّص في زاوية الرؤية، في الموقع الذي نستقبل منه كلمة ما، أو ننظر منه إلى نصٍ ما، وفي الدلالة التي تختلف باختلاف مواقع القراءة.
ويبقى أن نلاحظ إذا أخذنا جانب القرّاء، أنّ النص الذي يفتننا في سنوات الصبا الأولى قد نراه عاديًا في سنوات الشباب. فالقارئ أيضًا ذاتهُ، هو قارئٌ متغيّر. كلّ تجربة قراءة، إذا كانت قراءة جادّة لكتاب جيّد، تغيّر شيئًا في داخل القارئ، تبني وعيهُ وترفع ذائقته الجمالية، وقد تعمّق غربته عن محيطه إذا كان يعيش في وسطٍ مُسْتَنّقَع، وتدفعه للبحث عن مجتمع صنعه مجموع القرّاء البعيدين المجهولين، ليتّصل معهم بوسائط شفيفة. وقد يجتمع هؤلاء القرّاء الذين أحبّوا الكتاب ذاته بطرق متقاربة، على دليل واحد يسوقونه عند الحديث عمّا أعجبهم في النص، وما جعلهم ينتمون إلى ذلك المجتمع العابر للأحوال والأزمنة.
وبالعودة إلى المطلوب من الكتابة، كي تشعرنا بأنّنا مرغوبون، وكي تكبّلنا بأصفاد سحرية، وإذا تجنّبنا الحديث عن لذّة اللغة ودلالتها فقط. لربما نجد غايات متعدّدة بتعدّد المذاهب النقدية وأمزجة القرّاء، بدءًا من الموضوع، إذ من المنوط بالكتاب أن يتحدّث عن شأنٍ يمثّلنا، وإن لم يكن يمثّلنا بشكل تام، لانبغى أن نرى أنفسنا فيه وأن نعتبره يخصّنا في جزء منه. ومن ثمّ وهو الأمر الذي قد يجد القرّاء تفسيره لدى النّقاد عند الإجابة على سؤال قديم، وهو سؤال: "كيف نكتب؟" وليس "ماذا نكتب؟".
في سؤال الكيفية يتلخّص اللغز الذي يربط القارئ بالنص، تتصلّب الخطوط الواهية وتصبح مرئية أمام القارئ، ليعرف ما جعله يدافع عن نص جيّد بات نصّه الخاص، حتى لو كان يتحدّث عن موضوع لا يعنيه؛ فالنصُّ الرديء هو الذي يفشل في إقناع القارئ أنّه مرغوب، ومُشتَهى، مهما كان موضوعهُ ملتزمًا. وكثيرًا ما تقع الكتابة الجيّدة على هذه الغواية، الفتنة، والتي تأخذ القارئ على جناح الرغبة إليها.
* كاتب سوري