على الكورنيش

30 اغسطس 2014
من كان؟ أين يمضي؟ (أسامة أيوب\فرنس برس\Getty)
+ الخط -
كورنيش المنارة، في بيروت، يحفظ تفاصيل "أهله"، حتى ولو زاروه لمرات قليلة. أما هو فيتشكل في ذاكرتهم، ولا يغادرها أبداً.

للصور دلالاتها الخاصة بالمكان. تغيب في عناصرها، فيكاد البحر يقفز إليك، مع صخوره، ونسماته المالحة الشهية. صور تحمل سعادة في لحظتها، وبهجة مستقبلية لا تزول أبداً.

فمنها تلك التي يتآلف لون شعرك البني الكثيف، الذي لم يتجاوز الثالثة، مع لون السماء وهي تغلف الصيف بعناية، وتخبئه لموعد لاحق. ومنها ذلك الفرح الغامر للجنود، يضحكون جميعاً، لطفل يقف فوق سيارة والده المرسيدس 200.. ويرقص العلم اللبناني وحده فوق آليتهم المتهالكة.

ومنها تلك اللقطة الفريدة، بعد واحدة من أقسى الحروب، وتقسيم للبلاد، منع عن أهلها أجزاء وطنهم، فبات الكورنيش مكتظاً، بجماهير "القوى الوطنية"، بمختلف أطيافها وجنسياتها. في تلك الصورة يظهر شاب بين الجموع، مختلفاً عمّن سواه. لا يكاد ينتبه للطفل أمامه، وهو يرفع علمين صغيرين استعارهما من سيارة أبيه، رغم أنّه يصرخ بعض كلمات "كلنا للوطن".

تجمّده الصورة وهو ينظر إلى البعيد. وبسترته الزيتية الخفيفة، يضع يديه في جيوبه، وطوله الفارع في جسد نحيل، وبشاربيه الرفيعين الخفيفين، يبدو في حدود الثامنة عشرة.

من كان؟ أين يمضي؟ تتمعن في وجوه عقد جديد لألفية ثالثة، فلا تكهربك الذاكرة تنبيهاً له. هل بقي في ذلك العمر يومها، واستقر في الصورة؟ هل بات أحد المسؤولين الذين يقصدون الكورنيش في الرابعة والخامسة فجراً؟ هل هو أحد المتريضين، بمشيهم وركضهم ودراجاتهم وكروشهم ولياقتهم؟ أم أحد السباحين يفترشون الصخور صيفاً وشتاء؟ ربما هو صياد في جل البحر أو عين المريسة. أو غطاس ينقّب بحثاً عن حبات "توتيا" بين الصخور. ربما هو ذلك المتلصص على مسبح الجامعة الأميركية ومن فيه. أو أحد رجال الأمن أمام "الريفييرا". ربما يعمل في أحد المقاهي والمطاعم والمسابح الممتدة من ملعب "النجمة" وقهوة "بوشكاش"، إلى "السان جورج"، بلافتته الناقمة على مشروع غيّر وجه المدينة. هل هو بائع الغاردينيا يحمل عكازاً بيد، وعقود ورد بيد؟ أم بائع القهوة يفاجئك بلسان متعدد اللغات؟ هل هو بائع الذرة، ذو المقام العالي، بعرنوسه الذي يبيعه بثلاثة آلاف ليرة؟ أم على العكس، هو الدركي الذي يطلّ فجأة مع زملائه، ليطرد من يطرد من بائعين، ويبقي من يبقي، بحسب "رضاه" عنهم؟

احتمالات كثيرة لصورة ما زال يتحرك الشاب فيها نحو هدفه. لكنّ الكورنيش هنا، والعمر يمشي على نسائمه، حيناً، وعواصفه أحياناً. وسيخرج من الصورة يوماً إلى كورنيش اشتاقه، أو ربما... أدمنه.
دلالات
المساهمون