"أبناء الدانمارك"، الروائي الطويل الأول للعراقي الدنماركي علاّوي سليم، عُرض في المسابقة الرسمية للدورة الـ48 (23 يناير/ كانون الثاني ـ 3 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، ونال استحسانًا. "ثريلر" سياسي، يناقش صعود التيارات المتطرّفة في المجتمع الدنماركي المعاصر، أكانت أقصى اليمين الشعبوي المُحافظ أو الإسلام الراديكالي في الغيتوهات العربية، فهي تؤثّر في مكوّنات هذا المجتمع، الآيل إلى الإنفجار في أية لحظة.
تجري أحداثه في مستقبل قريب (عام 2025)، إثر تفجير إرهابي يحصد 23 ضحية. ما من تفجير كهذا حصل في الدنمارك، لكن علاّوي سليم يتخيّله في سبيل خطابه عن التسامح والانتماء والتعايش. التفجير نقطة انطلاق فيلم يعرّف سريعّا بشخصيته الأساسية زكريا (محمد إسماعيل محمد)، 19 عامًا، الذي تُكلّفه إحدى الجماعات الإسلامية المتطرّفة اغتيال مارتن نوردال (راسموس بييرغ)، المُرشّح الشعبوي للانتخابات المقبلة، لأنه يُجاهر برفضه ذوي الأصول المُهاجرة. البقية سلسلة من الأحداث والمفارقات، التي تُنتج عنفًا كثيرًا في جوّ من الاحتقان الشديد.
"العربي الجديد" التقت علاّوي سليم، وأجرت معه الحوار التالي:
(*) كيف وُلدت فكرة فيلم عن الوطنية وأقصى اليمين في الدنمارك؟
ـ هذا فيلم عن الأصوات المتطرّفة من كلا الطرفين. الطرف العربي متمثّل بالإسلام الراديكالي، والطرف الدنماركي باليمين المتطرّف. لم أُرِد فيلمًا سياسيًا تقليديًا عن اليمين واليسار، بل عن المجتمع، وعن كيف أنّ التطرّف بات شيئًا "طبيعيًا"، يُمكن قبوله والسماح به. طبعًا، هناك مَن لا يزال يتصدّى لهذه الظاهرة، لكنّي أؤمن فعلاً أن بعضا ممّا يُصرَّح به على المنابر لم يكن مقبولاً قبل 10 أعوام. هذا الخطاب المتطرّف يأتي على لسان بعضٍ ممّن يُمكن اعتبارهم كبار القوم في المجتمع الدنماركي. إذا استمرت الحال على هذا النحو، من الآن إلى 10 أعوام، ستتكرّس هذه الظاهرة أكثر فأكثر.
في الفيلم، هناك رجل يبدو لطيفًا ظاهريًا، ويقول أشياء قاسية جدًا بحقّ المهاجرين خلال مشاركته في برنامج تلفزيوني. هذا شاب لطيف، ربما تبتسم في وجهه. هو إنسان في نهاية الأمر. ليس شريرًا. بعضهم لا يعلن مواقف متطرّفة لأنه شرير. الخوف هو الذي يجعله على هذا النحو. يخاف من أجل بلده وعائلته ومجتمعه. من وجهة نظره، يعتقد أنّه يحمي نفسه. وخصمه كذلك يعتقد أنّه يحمي نفسه وجماعته. لكن، عندما ترى الاثنين من بعيد، تعي ما لا يليق بالإنسانية.
بهذا المعنى، البوح بهذه الفظاعات صار "طبيعيًا". لهذا السبب، أنجزتُ هذا الفيلم. وددتُ النظر إلى ما الذي يحدث عندما يُصبح التطرّف أمرًا عاديًا. لذلك، كتبتُ الفيلم بصيغة المستقبل، بعيدًا عن المكان والزمان الجامدين. لجأتُ إلى الروائي كي أضع الطرفين أحدهما في مواجهة الآخر، والخروج بشيء أكثر تطرّفًا، كون الروائي يُتيح ذلك.
(*) هل أجريتَ بحوثًا كثيرة قبل كتابة السيناريو ورسم ملامح الشخصيات؟
ـ نعم. أجريتُ بحوثًا كثيرة، وشاهدتُ أفلامًا وثائقية عديدة، وقرأتُ عن أناسٍ ينبذون المجتمع الذين يهاجرون إليه، فاكتشفتُ مثلاً أنه لا يوجد زكريا واحد ولا مارتن واحد. الأسباب التي تحمل المرء إلى التطرّف مختلفة. إلا أنّ هناك نقطة يتشاركها الجميع: الإحساس بالظلم. هذا وضعته في الشخصيات كلّها. وأيضًا، الإحساس بأنّ العالم مكان ظالم.
(*) ولكن، أليس الفيلم ملتبسًا بعض الشيء، إذْ ربما يُفهم منه أن العرب حلّوا في الدنمارك وباتوا تهديدًا لها؟
ـ العربي المولود في الدنمارك دنماركي أيضًا، ويحقّ له ما يحقّ للدنماركي أبًا عن جدّ. جميعنا أولاد هذا المجتمع. مَن أنت كي تقول إنّي لا أستحق الحياة في هذا المكان؟ هل تفهم ما أقصده؟ الشخصية الرئيسية في الفيلم نصفها دنماركي ونصفها عربي. مولود في الدنمارك، ومُقيم فيها طول حياته. أنجزتُ هذا الفيلم وأنا أعي تمامًا أنْ لا مكان للطوباوية. حتى الوطنيون المتعصّبون لديهم وجهة نظر ربما نتفهّمها، فهم يقولون إنّه لا يُمكن استقبال الجميع في بلدهم. لا يكفي أنّ نقول "دعونا نعيش معًا". المجتمعات لا تعيش هكذا. حتى في البلدان العربية، هذا غير موجود. لذلك، هناك بعض البروباغندا وبعض الحقيقة في الشخصيات كافة. لكن قراري في الفيلم كان الابتعاد من منطق "هذا جيّد وهذا سيئ".
(*) الدنماركيون، والغربيون عمومًا، يقولون إنّ المهاجرين العرب والمسلمين يعيشون في غيتوهات، رافضين قِيَم البلد المُقيمين فيه، ونابذين عاداته. ما رأيك بهذا الادعاء؟
ـ أعتقد أن معظمهم يعيش حياة سعيدة. الدنمارك بلد يحلو فيه العيش. هناك الأمان الذي يبحث عنه كلّ مَن لجأ إليه هربًا من الظلم أو الحرب في بلده. في المقابل، صحيح أنّ هناك جيلاً انفصل عن المجتمع ككلّ، لكن لا يجوز اختزال المهاجرين به، إذْ إنهم أفراد فعّالون في المجتمع الدنماركي المعاصر. الأشياء أعقد بكثير من هذا التبسيط. برأيي، الغيتو مسألة مرتبطة بالمجتمع أكثر من كونها مرتبطة بالثقافة. الغيتو يتكوّن في ظروف معينة، عندما لا يعود هناك بديل. حتى في البلدان العربية، هناك غيتوهات. طوائف داخل طوائف، حيث صعوبة العيش تتغلّب على أي شيء آخر. بعض هؤلاء المُهاجرين جاء إلى الدنمارك ولا يعرف لغة ولا مهنة، ثم تدبّر أمره. المسألة تختلف مع الأولاد الذين تربّوا في الدنمارك. من حقّهم أنْ يُمنَحوا الفرص نفسها التي تُعطى لأي دنماركي. ربما عليهم بذل المزيد من الجهد، لكن في المحصّلة توفَّرت لهم حياة هنيئة.
(*) الفيلم يبدأ مع شخصية زكريا ثم ينتقل إلى تعقّب مسار علي. لماذا قرّرتَ التخلّي عن الأول لتعقّب الثاني؟
ـ لا أريد التحدّث عن هذه النقطة تحديدًا، لأني أريد من المُشاهِد أنْ يعيش الفيلم. كلّ ما أستطيع قوله إنّي أردتُ القفز فوق الحدود الاعتيادية للبنية الفيلمية. أحبّ الأفلام، ويُعجبني أنْ أُفاجَأ بها.
(*) هل هناك عناصر أوتوبيوغرافية في الفيلم؟
ـ أنجز الأفلام منذ أعوام، وإن يكن هذا فيلمي الروائي الطويل الأول. درستُ 4 أعوام، واشتغلتُ في مجال الأفلام القصيرة 6 أعوام. ربما في هذا الفيلم نبشتُ أكثر في ذاتي وأفكاري وهواجسي. لكني لم أُرِده عنّي. مع ذلك، كلّ فيلم تنجزه فيه شيء منك. لا يُمكن تفادي هذا الأمر. أما إذا كنتَ تسألني هل القصّة شخصية، بمعنى أنّي عشت شيئًا مُماثلاً لها، فلا. أردتُ فيلمًا أكبر منّي ومن تجربتي بكثير.
(*) الدولة الدنماركية شاركت في تمويل الفيلم. هل منحتك الحرية الكاملة في قول ما تريده؟
ـ نعم. ناقشنا السيناريو والكاراكتيرات والحكاية، لكن القرار في النهاية عائد لي. في الدنمارك، طبيعي جدًا التطرّق إلى القضايا الاجتماعية من خلال الفنّ. لكن لا توجد وصاية أو رقابة على الفنّ. يُمكن قول كلّ شيء ما دمنا لا نخالف القوانين.
(*) لِمَ خيار تصوير معظم مَشاهد الفيلم ليلاً؟
ـ كان التصوير ليلاً غاية في الصعوبة. لا يُمكنك تخيّل كم كان صعبًا (ضحك). الأجواء الداكنة تتناسب والقصّة القاتمة. عندما صوّرنا مشهدًا قرب البحيرة مثلاً، شعرنا بشيء مختلف بعد مكوثنا في الظلام فترة طويلة. ثم إني أردتُ ربط السواد بفكرة أنّ الشخصيات غارقة في العتمة، ولا ترى العالم إلا من وجهة نظرها الضيّقة. العتمة جعلت الولوج في مَشاهد النهار أقوى. اشتغلتُ كثيرًا مع مدير التصوير (إدي كلينت) على الألوان. اخترنا الأحمر للبداية، والأخضر للجزء الثاني من الفيلم. هذا كلّه مقصود، ويحمل دلالات.
(*) هناك جملة لفتتني في الفيلم: أحد العرب يقول إثر وقوع التفجير إنّ الآلاف يُقتَلون في العراق وسائر البلدان العربية، ولا تتحرّك ضمائر الأجانب إلا إذا مات أحد منهم. هل تتبنّى وجهة نظر كهذه؟
ـ لا. مَن يقول هذا الكلام ليس أنا. الشخصية التي تقوله ترى العالم من هذه الزاوية. كما أنّ اليمين يعتبر أنّ العرب والمسلمين يخرّبون العالم، وهم أصل البلاء. أفضل الأفلام الحربية في تاريخ السينما هي تلك المُناهضة للحرب، لكن عليها أنْ تُري الحرب. إظهارك العنف والتقاتل لا يعني أنك تؤيدهما. أنا خلقتُ شخصيات، ويجب أنْ أتيح لها التعبير عن وجهة نظرها. أتحدّث عن الأصوات المتطرّفة، فلم يكن ممكنًا عدم إظهارها. إلا أني لا أؤيد أيًا من هذه الأصوات. الجملة التي ذكرتَها لها مؤيّدون ومعارضون. لكن، إذا ابتعدْتَ قليلاً ونظرْتَ إلى المشهد في مجمله، ترى أنّ هؤلاء يستولون عليه. نحن بتنا بين فكّي التطرّف، والذي بين الفكّين هو الخاسر الأكبر.
(*) هل تعتبر نفسك عراقيًا أم دانماركيًا؟
ـ أنا من أصل عراقي، وأشعر بالفخر به. هذا جزء كبير من حياتي. لكني ولدتُ وترعرعتُ في الدنمارك. هذا هو البلد الذي أعيش فيه، والذي سيعيش فيه أولادي من بعدي. على الإنسان أنْ يعتزّ بخلفيّته، وأنْ يكون جزءًا من المجتمع الذي يُقيم فيه.