عقلية التغيير... رؤية في أصل التغيير

25 ديسمبر 2017
+ الخط -
إن مفهوم التغيير مرتبط بسياقه التاريخي وبشكل كبير بمفهوم الثورة، إذ ثمة علاقة ديناميكية بين المصطلحين، والثورة في حد ذاتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بوجود الدول التي تعاني مجتمعاتها التخلف والفقر والفساد السياسي.

ومن هنا أستطيع القول إن روح التمرد هي جوهر الثورة، وإن هذه الروح نفسها تجسّد شرطا أساسيا للتقدم والازدهار، إذ تمنح الشعوب الرغبة العميقة في التعبير عن ذاتها وتجاوز أزماتها، والثورة بهذا المعنى لا تقترن بالثورات ذات الطابع العسكري فحسب، خصوصا التي تخلّف بنتيجتها حكومات ديكتاتورية شوفينية ذات إيديولوجية أحادية تكون على الأغلب أكثر فتكا وتشددا من سابقتها، لأنها تغير شكل المجتمع وتفرض نمطا سياسيا من دون أي تغيير حقيقي في المضمون السياسي والاجتماعي للشعوب، وبالتالي تظل حالة القمع والفساد سائدة على شكل استقرار بيروقراطي جامد يرفض أي حالة تجديد أو تغيير لأجواء الروتين التي تسيطر على الدولة، والتي يسميها إعلام هذه الدولة حالة استقرار، وتجربة بعض دول أوروبا في هذا المجال تعد برهانا دامغا لما نتطرق إليه.

لدينا على سبيل المثال، الثورة الروسية التي قامت عام 1917 لغايات سامية تنادي بحقوق الطبقات الدنيا بالمجتمع، وعلى الرغم من الضرورة التاريخية بتغيير النظام القيصري البطريركي، كانت ثورة ذات طابع عسكري تبعتها حرب أهلية تمخضت عن وصول نظام جديد إلى هرم السلطة رسّخ بدوره نظاما استبداديا، ربما كان الأكثر وحشية وقمعا في القرن العشرين. والحقيقة أنه ترك تأثيرا سلبيا على أسلوب الحياة الروسية وعقليتها الخائفة إلى يومنا هذا، وهذا ما تبدى واقعيا من خلال موقف الروس من الثورات الشعبية بالمنطقة العربية. الأمر نفسه ينطبق على الثورات التي شهدتها دول أخرى من أوروبا الشرقية أيام مجد الشيوعية العالمية، وهذه الثورات حوّلت الحياة في هذه البلدان إلى نموذج أحادي معلّب زرع البيروقراطية الإدارية ووقف في وجه الإبداع والحرية الفكرية، مثلما حدث في رومانيا مثلا.


وأما الثورات التي شهدتها دول العالم العربي، إنما هي ثورات بدأت سلمية تحررية بهدف صناعة المستقبل الناضج بعيدا عن ثقافة العنف والتشويه حتى وإن لم تكن البدائل كما يشتهي أصحاب التوجهات الليبرالية، ذلك لأن وصول أحزاب دينية إلى سدة الحكم، وهو ما جرى في بعض البلدان الثائرة، والتي يشكّل الولاء الديني فيها جزءا من المجتمع الثائر، سيكون بداية لحصيلة تجارب سياسية طويلة ستعبر من خلالها الدول كي تصل إلى طريق التنمية المأمول. وهذا الوصول الديني للسلطة لا يمثّل من وجهة نظر حياتية بادرة فشل ثوري بقدر ما هو إفراز يعكس عشرات السنين من الكبت والقهر عاشه الشعب وجعله يتمسك بطريقة أقوى بإرثه الديني المتوارث؛ فبلد كسورية مثلا والتي شهدت ما شهدته بلدان أخرى، كتونس ومصر وليبيا واليمن، نجحت في تغيير أنظمة حكمها على الرغم من العقبات، والمتوقع أن لا يكون النظام الجديد فيها نظاما ديمقراطيا مثاليا، وهذا ما أعتبره طبيعيا، نسبيا.

ذلك لأن جذور الديكتاتورية عميقة الغور في سورية وأثرت فعليا على البناء النفسي للإنسان هناك، الأمر الذي يحتاج زمنا طويلا حتى يتشرب الشعب ثقافة التعبير عن الرأي والتخلي تماما عن الثقافة الببغائية التي زرعها النظام الحزبي والأمني، وبالتالي نجاح انتفاضة عاشت في ظل ظروف أمنية استثنائية يعتبر إنجازا رائعا بل تاريخيا على حساب سلطة القهر، والحقيقة أن سورية، حسب رأيي، تحتاج إلى تغيير كل ما أسس لثقافتها منذ نصف قرن، إذ إن السوريين سيجدون أنفسهم مضطرين لتغيير كل كبيرة وصغيرة بدءًا من مؤسسات الدولة إلى طوابع البريد ومنه إلى العملة الرسمية، اللتين حملتا صور آخر رئيسين مثّلا الديكتاتورية بأسوأ أشكالها.

حتى تغيير كلمات النشيد السوري لن تكون خطيئة، بل محل نقاش، ولا أعتبر هذا ترفا في التعاطي مع الحريّات، مع أن النشيد السوري ليس من صنيعة النظام الحالي، بل إنه جميل اللحن، إلا أنه عندما نمعن في كلماته، نجد أنه نشيد ذو طابع مرحلي يجنح نحو التعصب ولا ينفع بأن يكون مرجعية لأجيال تنشأ على طرق علمية حديثة غايتها التصالح مع نفسها ومع العالم المحيط بها، إذ إن النشيد الوطني السوري يمجّد قادة في التاريخ العربي مثل "هارون الرشيد"، الذي كان يحكم في ظل نظام إسلامي وراثي، ويعتبر ما عاشه العالم العربي من استبداد وقمع امتدادا لحقبة الرشيد، إذ اعتبر فيها الحكّام آلهة بالتزامن مع توسع نفوذهم ومناطق سيطرتهم العسكرية، ناهيك عن البعد الديني للنشيد بذكر "خالد ابن الوليد" الذي يُعد من أكبر الرموز الدينية الإسلامية العسكرية.

فذكر الرموز التاريخية والدينية في النشيد الوطني يعد مخالفا لأسس الدولة المدنية الحديثة وبالتالي يزرع نزعة التأبيد عند الأجيال الناشئة، إذ لا يحق لأحد أن يظل مرجعية إلى الأبد وذلك من باب رفضنا تأليه القادة مهما كانوا عظماء والذي كان أهم أهداف الانتفاضة السورية، ولأن طرحت النشيد كمثال ذلك لأني مؤمن بأن فائدة التغيير تكون في صميمه وليس في شكله، أي عندما لا يكون أحد فوق مستوى النقد، وبالتالي يأخذ شكله الحضاري.

والتغيير بطبيعته ضرورة تاريخية ورغبة نفسية عند الإنسان بوصفه عاملا مساندا لحركة الوعي عنده، وكمثال قريب من هذا الطرح على مستوى التأثير على الأجيال، أرى أن رمز الشمس الضاحكة بالعلم الأرجنتيني ذو تأثير إيجابي هائل على الصغار بسبب الكم الكبير من التفاؤل والأمل الذي يمنحه هذا الرسم، الأمر نفسه ينطبق على كلمات السلام الوطني البرازيلي الداعي للسلام والمحبة.

بينما من ناحية أخرى إذا أمعنّا النظر فإننا سنجد شعوبا لم تعش التجربة الثورية ببعدها التغييري، نلقاها لا تملك القدر نفسه من الوعي الحياتي مثل بلدان شهدت ثورات. على الرغم من أن قيام الثورات لا يمثل بالمطلق حالة وعي كامل، لأن مفهوم الثورة يحتاج لعيش تجربة مخاض كاملة حتى يتبلور نقاؤها. إن أرضية التغيير مرتبطة بالعمق التاريخي للبلد الذي يعيش تجربة التغيير.

فمثلا بلدان كدول الخليج العربي تعيش استقرارا ماديا منقطع النظير تفتقر إليه أوروبا الصناعية نفسها، كالسعودية والإمارات، التي تسعى جاهدة للوصول إلى مصاف الدول المتقدمة، وهذا جميل وأفضل من ألا تفعل شيئا، ولكن هنا تأخذ الرغبة بالتطور والتقدم جانبا شكليا لا جوهريا، لأني أجد هذا التوجه لا ينبع من تجربة حضارية، فدولة مثل الإمارات فيها برج خليفة أعلى بناء في العالم، ولكن لنسأل أنفسنا من هو مهندس هذا البناء أو ما هي جنسية العمال الذين شيدوا البناء، فسنرى أن ليس من بينهم إماراتيون، وهذا الكلام ينطبق على كامل دول الخليج وكلنا يعلم بأن الحكام الخليجيين منزهون عن أي نقد؛ وهذا يتنافى مع مشروع الدولة المدنية. وبالتالي نجد أن زعماء دول الخليج يعملون على تلميع شكل الدولة وليس على مستوى التنمية البشرية، حتى أن دور المرأة في هذه الدول يعد الأدنى في العالم. وبالتالي أرى أن منطقة الخليج هي من أكثر الدول التي تعطي بعدا عمليا لما يسمى الثالوث المحرم (الدين - الجنس - السياسة)، والذي يُعتبر تحديا حقيقيا لجوهر التغيير في هذه المنطقة. كما أن هذا الثالوث يمثل عائقا أمام الأشخاص الذين يرغبون في تطوير أنفسهم على المستوى الفردي.

في المقابل، نجد دولا مثل ألمانيا واليابان على سبيل المثال، جسدت جوهر التغيير ببعده الإنساني عبر برامج تنمية بشرية علمية ومتطورة بعد أن كانت دولا منكوبة مدمرة في نهاية الحرب العالمية الثانية، نجدها اليوم من أرقى وأهم دول العالم، وفي الوقت نفسه أعطت مثالا رائعا عن الإلهام الذي يمكن أن يقدمه بلد ما إلى بلدان أخرى من دون الارتكاز إلى الإنجاز العسكري والنووي وهذا هو المهم.

إن عقلية التغيير تتقبل الأفكار الجديدة من دون أن تحكم عليها مسبقا بوصفها أفكارا شاذة، وهي تفرض الصدق والثقة بالنفس وأن ما يقوله المرء لنفسه ولأصدقائه المقربين يجب أن يقوله للعالم بأجمعه دون أي شعور بالخجل.
42BBA522-1BE8-4B0B-9E9A-074B55E2BCB4
معتز نادر

كاتب صحافي وشاعر.يقول: من المخزي أن ينسف طارئ نفسي أو عقلي معين كل ما أنجزته تجربة الذاكرة عبر سنواتها الطويلة.. إن هذا يؤدي إلى الحديث عن الموهبة الممزوجة بالصدق والنقاء، إذ برأيي ستكون أقصى ما يمكن أن يصل إليه المرء من كفاءة وروعة.وليس ثمة قضية أهم من مواجهة الإنسان لوحدته.. إن هذا العالم نهض على الأغلب من أشياء تافهة وغير ملفتة، وهذا ما يمنح الإغراء للبحث عن حياة نقية وأكثر نضارة.

مدونات أخرى