على المستوى العربي، لمعت أسماء معمارية كثيرة بدا بعضها نماذج لمثل هذا التحاور، وإن لم يتم على المستوى النظري - مثل تحاور بودريار ونوفيل، إلا أنه كان تحاوراً على المستوى العملي قد يصل أحياناً إلى تناحر بين رؤية وأخرى.
مثل هذه السجالات، أثارها المعماري المصري عصام صفي الدين في محاضرته التي ألقاها مساء الثلاثاء الماضي في "بيت المعمار المصري" في القاهرة. في حديثه، يبرز اسمان أو رؤيتان متحاورتان في مجال العمارة العربية؛ زها حديد من جهة وحسن فتحي من أخرى. توجّهات حديد كانت تسعى إلى الفرادة، أما فتحي فقد اعتمدت أعماله على فكرة العمارة الجماعية أو الفقيرة، بحيث تأخذ منطقة بكاملها طابعاً معيّناً دون التوغل في مسألة التحديث مقابل التماهي مع التراث المعماري القديم.
ينحاز صفي الدين إلى فتحي، باعتباره من تلامذة الأخير ومؤسس متحفه في "بيت المعمار المصري"، ويبدو أقرب أيضاً إلى نظريات بودريار التي تضع في اعتبارها بشكل كبير مسألة التفاعل مع العمارة، بشقيها المرئي وغير المرئي.
ناقش صفي الدين مسألة الفرادة واعتبر أنه لا يحبّذ كثيراً الفرادة بمفهوم زها حديد حيث لا تناقض بين مبنى تم تصميمه على الطراز الحداثي يتجاور مع بيئة ذات طابع أثري، وهو المثال الذي تم تطبيقه أيضاً في "مبنى بومبيدو" في قلب المدينة القديمة في باريس (مبنى مليء بالممرات على شكل اسطوانات وأعمدة حديدية) لم ير الفرنسيون في هذا التصميم تصادماً بين بيئتين. يقول المحاضر "أؤمن أن الفرادة يمكن أن تعني غير ذلك، مثل طراز حسن فتحي الذي يقوم على فكرة أن جميع المباني في منطقة معينة تتحلى بطابع معين، هذا الجميع يُعطي المشهد الواحد، والواحد يعطي التفرّد ويعنيه".
تحدّث صفي الدين أيضاً عن ضرورة الاستمتاع بالحالة المعرفية تجاه العمارة، فضلاً عن النظرة النقدية التي هي مكملة للعمل الإبداعي المعماري نفسه، قائلاً "التفاعل مع العمارة لا ينبغي أن يقتصر على الاستقبال البصري والارتياح من عدمه فقط".
واعتبر صفي الدين أن الوصول إلى هذه الحالة من الاستمتاع المعرفي لن تحدث في الأغلب إلا بالتدريب على التأويل البصري من جانب، والجهد المعرفي لفهم العمارة من جانب آخر، فالاستمتاع بالعمارة مبني -من وجهة نظره- على التراكم المعرفي، واعتبر مساحة الغموض التي تسبق التأويل هي مساحة مشتركة بين المتخصّص وغير المتخصّص، حتى وإن اختلفت في النِسب إلا أنها تتطلب جهداً من الجميع للوصول إلى المعنى، وهذه هي المتعة التي تُكسبها الفنون بشكل عام للمتلقي والعمارة على نحو خاص، حيث إن المتعة تكمن وراء البحث وكشف المعنى.
وأشار صفي الدين إلى حالة التواصل مع المعمار التي نمت بداخله منذ الطفولة، من شرفة منزل عائلته بـ"الدقّي"، هذا التواصل البصري دفعه لاحقاً إلى البحث معرفياً وراء هذه المشاهد المعمارية التي كانت منتشرة في الحي في ذلك الوقت وتتبّع التصاميم ومراحل تطوّرها.
يذكر المعماري المصري أن حصص التربية الفنية كانت أيضاً تنمّي هذا الوعي بالتواصل البصري، وهي الحصص التي كانت تسمّى في السابق بحصص "الأشغلة الاجتماعية" في المدارس، وكانت تهدف إلى تعليم التلاميذ التعايش والألفة مع العمارة والتداخل بين الفنون وتنمية حس الاستمتاع بها، وهو ما اعتبره من الأمور المفقودة داخل مناهج التعليم في مصر في الوقت الراهن.
طرح صفي الدين تساؤلاً افترض أنه من الضروري أن ينبع من كل ذات تتفاعل مع العمارة؛ هل نحن من نحتوي العمارة عندما ننظر لها من الخارج؟ أم هي التي تحتوينا كجسد له طاقته وتكويناته وتفاعلاته عندما نكون بداخلها؟ ولفت إلى ضرورة دراسة علاقة العمارة بسلوك الإنسان واستمتاعه.
تطرّق المحاضر أيضاً إلى العمارة الشعبية وهي العمارة التي اعتبرها سابقة لتأسيس الدولة المصرية ذاتها، وبدا متآلفاً مع هذا النوع من العمارة سواء الريفية أو الصحراوية أو النوبية وغيرها نظراً لأنها العمارة التي من خلالها تمكن دراسة شخصية السكان المحليين قائلاً: "جمال حمدان هو من لفت نظري إلى ضرورة التركيز على فهم وتحليل هذا النوع من العمارة الشعبية من خلال كتابه شخصية مصر".
غير أن مصطلح العمارة الشعبية قد أخذ تعريفات وتوصيفات مختلفة منذ سبعينيات القرن الماضي وفقد جزءاً كبيراً من شخصيته على حد وصف صفي الدين، حيث اعتبر أن المرحلة الناصرية شوّهت العمارة الشعبية بعدما تبنّت مشاريع مثل الإسكان الشعبي والإسكان الاقتصادي، على غرار الحالة التي كانت في روسيا وألمانيا بعد الحربين العالميتين. يقول "هذه البلدان لجأت إلى هذه المشاريع بسبب الحروب التي خاضتها والدمار وكثرة المشرّدين، لذا كانت هناك حاجة عاجلة لإنشاء مشاريع إسكانية سريعة ومؤقتة نتيجة الظرف السياسي، نظام عبد الناصر قام بتقليد ألمانيا وروسيا دون الحاجة لذلك، لم تكن مصر تمر بحرب طاحنة دمرت البلاد وشرّدت المواطنين" .
لفت صفي الدين في نهاية المحاضرة إلى ظاهرة "الأسطى المعماري" وهو عامل البناء الذي تطوّر بسبب الممارسة والانخراط في السوق فصار "أسطى" يصمّم عمارات وشققا بدون فن أو دراسة، وغالباً ما يعتمد على نماذج متشابهة يطبقها دون مراعاة الجماليات وشخصية البيئة المحيطة، ليكمل بدوره التشويه الذي بدأه النظام منذ عبد الناصر".