يومُ الجمعة من كل أسبوع موعدٌ قار، في شارع المتنبي، يأخذ العراقيين قليلاً من ضجيج الأحداث الأمنية ومعتركات السياسة. هناك تترجّل كافة التوجهات الفكرية والسياسية في العراق. ولعل أكثر ما يلاحظ هو كثافة الحضور الثقافي لليساريين. الأمر ليس جديداً أو مستغرباً محلياً، فبوصلة الثقافة العراقية طالما أشارت في اتجاه اليسار. إنّ في الأمر ظاهرة تستحق البحث وراءها.
كيف فرض اليسار مركزيّته على الثقافة العراقية؟ وهل استطاع أن يُحدث تغييراً حقيقياً في الشارع، أم أن الأمر لا يعدو عن تشكيل نخب معزولة عن الشارع وهمومه؟ وهل استطاعت "العلمانية العراقية" بمختلف مدارسها أن تشكّل بديلاً للأحزاب ذات المرجعية الطائفية، أم أنها تداخلت بأطروحاتها ولم تكن أكثر من تروس في آلتها الطاحنة؟
منذ نشأة الدولة الحديثة، وانفتاح العراق التقليدي والمحافظ على الأفكار والأيديولوجيات الغربية، برز تياران رئيسان استطاعا تزعُّم الحياة السياسية والثقافية فيه لعقود طويلة؛ هما التياران القومي واليساري.
وحين قام الحكم الجمهوري في العراق عام 1958، أعلن الشيوعيون تأييدهم لعبد الكريم قاسم في صراعه مع الأجنحة القومية في الجيش والشارع، وأصبح بيت الجواهري الموجَّه إلى قاسم "فضيِّقِ الحبل واشدُدْ من خناقهمُ.. فربما كان في إرخائه ضررُ" بمثابة شعار للسلطة الجديدة. وغدت مفردة الحبال شائعة لدى المثقفين الشيوعيين لدرجة أن كثيرين منهم كانوا يتظاهرون حاملين في أيديهم الحبال مطالبين الحاكم الجديد بإعدام معارضيه.
وكان السيّاب من أشهر من نالته عداوة اليسار، بعدما انقلب على الحزب الشيوعي الذي قضى فيه فترةً من عمره وألّف كتابه "كنتُ شيوعياً". لكن عندما شارك الشيوعيون في مجازر الموصل وكركوك الشهيرة، فقدوا الكثير من رصيدهم الشعبي، كما تعدّدت فتاوى علماء الدين المحذرة منهم لمجاهرتهم بمعاداة الدين.
انتهزت الدعاية القومية كل ذلك، كما وصفتهم بـ "الشعوبية" لمعارضتهم مشروع الوحدة العربية. لكن حبل الإنقاذ - سياسياً وثقافياً - مدّته لهم انقلابات القوميين وصراعاتهم على السلطة. هكذا، جرى تبادل الأدوار مرّات عدة بين الضحية والجلاد.
كان لكل من التيارين الشيوعي والقومي بيئته التي يتمدّد فيها بيسر وسلاسة. فقد اعتنقت معظم النخب السنية الفكر القومي، ووجدت فيه معبّراً عن أشواقها ونزعاتها في الانفتاح على العالم العربي والتواصل معه. في حين كانت البيئة الشيعية الجنوبية هي الميدان الأبرز للشيوعيين لاعتبارات عدة، من بينها حدّة الصراع الطبقي العنيف الذي تدور رحاه هناك بين الإقطاعيين وبعض رجال الدين من جهة، والفقراء والمسحوقين من جهة أخرى.
هذه الملابسات والحيثيات كانت أقل حضوراً في بغداد ومحافظات الوسط والشمال. لكن من الإجحاف تفسير مستويات انتشار الفكرين بالبعد الطائفي وحده، رغم أن خارطة الانتشار لكلا الفريقين تشير إلى ما يقترب من ذلك. فمدينتا هيت وبهرز السنيّتان كانتا في الماضي من أقوى معاقل الحزب الشيوعي، كما قدّمت مدينة الناصرية الشيعية العديد من رموز وأعلام الفكر القومي.
ومنذ أن فشلوا في اختراق مؤسسة الجيش ذات الهوى القومي، اعتبر الشيوعيون الثقافة سلاحهم الرئيسي، فنجحوا في اكتساح مساحات واسعة من البلاد. فيما قدّم القوميون أنفسهم كجسر وسيط بين الثقافة العربية القديمة - بمفهومها الإيجابي - والأيديولوجيات الحديثة، وتوفّق الفكر القومي بعدم الاصطدام الجذري بالدين لانطلاقه من منظومة ثقافية تعتبر الإسلام مكوّناً حضارياً أساسياً للشخصية العربية، ولضعف نفوذ رجال الدين في البيئة السنية التي انتشر فيها، في حين اعتبر الشيوعيون تحالف الإقطاع مع رجال الدين أكبر خطر يهدّد ثورة المسحوقين.
ولأن علاقة المثقف العراقي بالسياسة كانت ولا تزال حيوية وعضوية؛ فقد كان من مستلزمات الحضور الاجتماعي للمثقف أن يعلن ولاءه وتأييده لحزب أو تيار سياسي، وإن ضمناً. وهكذا حُسب الجواهري والبياتي ومظفر النواب على اليسار، فيما اعتبر عبد العزيز الدوري وناجي معروف وخير الدين حسيب ممثلين للفكر القومي.
حين ننتقل إلى أيامنا هذه، سنجد أن القوميين قد غابوا من الساحة كنتيجة للإقصاء السياسي، فملأ اليساريون معظم الفراغات. وقد ساهمت سيطرة الشيوعيين على بعض المؤسسات الثقافية، كاتحاد الأدباء وبعض الصحف والمجلات، في تصدّرهم المشهد الثقافي في السنوات الأخيرة، لكن في ثوب جديد مختلف هذه المرة.
فشيوعيو اليوم يشاركون في بعض المناسبات الدينية - الشيعية تحديداً - ودخلت إلى قاموسهم مصطلحات كانوا يعتبرونها رجعية بالأمس، حتى إن بعضهم أصبح يكتب عن معركة "الجمل" و"صفين" و"أنصار يزيد" و"الأمويون الجدد" تماهياً مع الخطاب الحكومي. هذا مع الإشارة إلى أن بعض مؤسساتهم الثقافية كـ"المدى" التي يترأسها شيوعي الأمس فخري كريم تحاول أن تسلك في خطابها طريقاً ينأى عن الخلافات المذهبية ويركّز على الديمقراطية باعتبارها حلاً، فيما أصبحت الاشتراكية من ذكريات الماضي.
إننا نلمس أن مفهوم اليسار كما يطرحه منظّروه والمؤمنون بفكره اليوم لا علاقة له بالفكر الماركسي المعروف ولا في آلياته في الثورة والتغيير، فالموضوع يبدو أشبه بليبرالية تهتم بحقوق الفقراء.
والحزب الذي كان يرفع شعار العداء للإمبريالية العالمية والرأسمالية المتوحشة انخرط جسمه الرئيسي في المشروع الأميركي منذ التسعينيات، وشارك في مؤتمرات المعارضة في الخارج وأيّد الاحتلال الأميركي، وكان ممثِّلاً في العملية السياسية التي نشأت بعد ذلك عبر سكرتير الحزب الشيوعي حميد مجيد موسى، وبقيت بعض الأصوات المعارضة لهذا التوجه الجديد فيه نشازاً تغرّد خارج السرب.
لا تنقطع تظاهرات اليساريين في ساحة التحرير وشارع المتنبي، لكنها في العموم نخبوية ومعزولة عن الشارع، لا يشارك فيها إلا بضع مئات في أحسن الأحوال. وهي تركز دائماً على الشأن السياسي، لكنها لا تتطرق إلى التدخلات الأجنبية أو ملف حقوق الإنسان، إلا إذا كان المستهدَف من بين صفوفهم.
ورغم حراكهم المكثف، يبدو وكأن الشيوعيين في عراق اليوم لم يعد لهم ما يقدّمونه للساحة الثقافية كأيديولوجيا متمايزة، وقد هجروا حتى مفردات خطابهم القديم. فمصطلحات "الاشتراكية" و"دكتاتورية البروليتاريا" والعداء لـ"الرجعية الدينية" وغيرها قد طويت في بطون الكتب، منذ أن انقلب الدهر على الاتحاد السوفييتي.
أما رجل الشارع البسيط فهو يعتبرهم مجموعة من المثقفين يتحدثون عن رفضهم التقسيم الطائفي أو يطالبون بحدّة بمزيد من الحريات، لكنه من النادر جداً أن يقترب من أنشطتهم أو يواظب عليها.