عروة النيربية: "قيمة الفيلم تمنح شرعية لأسئلة الجندر والجغرافيا"

25 نوفمبر 2019
النيربية: لا تعاطف بل عدالة (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -

للعام الثاني على التوالي، يتولّى السينمائي الوثائقي السوري عروة النيربية الإدارة الفنية لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية"، محاولاً إيجاد مساحات أكبر لأفلام مقبلة من دول وسينمات تجتهد لتقديم إبداعاتها الفنية والدرامية والجمالية إلى العالم. والنيربية مهموم بالقيم السينمائية المختلفة للأفلام، معتبرا، في حوار "العربي الجديد" معه، بمناسبة انعقاد الدورة الـ32 للمهرجان (20 نوفمبر/ تشرين الثاني و1 ديسمبر/ كانون الأول 2019) أنّها (القيم) أساس الاختيار، رغم إعلانه تحيّزه إلى المرأة كـ"قضية عدالة".

في هذا الحوار، يتناول عروة النيربية مسائل سينمائية مختلفة، انطلاقا من سؤاله عن علاقة السينمائيّ الشماليّ بالجنوب وقضاياه، ومدى تأثيره "السلبي" على سينمائيي الجنوب وقضاياه/ قضاياهم. لكنّه يُشدِّد على أنّه لن يُلغي فيلم الشماليّ إنْ يكن أصيلا، وهذا أساس النقاش النقدي حول كيفية اختيار الأفلام في المهرجان.

أما بالنسبة إلى السينما الوثائقية العربية، فيرى النيربية أن العالم العربي يشهد حاليا موجة جديدة من الأفلام الاستثنائية، من مغربه إلى مشرقه، وإنْ يكن عددها قليلاً، "لكنها تثبت نفسها في مساحة المهرجانات الدولية".

الدورة الحالية لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية" هي الثانية لكَ كمدير فني له. ماذا عن خلاصة التجربة، الشخصية والسينمائية، وتلك المتعلّقة بالمهرجان؟
أعتقد أنّ الدرس الأساسي الذي أتعلّمه ببطء هو معايرة الراديكالية، وكيف يتعلّم المرء ألا يتنازل عن موقف ومقاربة راديكاليتين للواقع العام، من خلال واقع الفيلم الوثائقي؛ وفي الوقت نفسه، يقدر على صوغ المقاربة بشكل يرفع احتمال الوصول إلى نتائج. هذا مشروعٌ يعني الراديكالية والبرغماتية اللتين يتعلّمهما من يكون في موقع كهذا، إلى جانب سياسة المهنة.

مثلا: لديّ تحسّسٌ تاريخيٌ من الأنتروبولوجيا في الفيلم الوثائقي، التي هي تراث الكولونيالية والموقف "الفرجَوي" (من "فُرجة") للسينمائيين في أوروبا وأميركا الشمالية إزاء بقية العالم. موقفي الراديكالي الأول يتمثّل بتصريح علني لي، أقدّم فيه نصيحة للمخرجين الشماليين بأنْ يتّخذوا لأنفسهم استراحة من صناعة أفلام عن الجنوب. راديكالية كهذه لها إيجابية أنّها تُلفت النظر، لكنها تُسهِّل أيضا رفضها، لأنّها تُشبه أو تُذكّر بروحية الرقابة وخصالها. كأنّ الموقف ليس نزع الكولونيالية، بل منع صناعة أفلام من قبل شماليين عن الجنوب.

عام واحد يكفي حتى يُدرك المرء أنّ هذه المسألة هي أيضا جزء من جوهر العملية الإبداعية، فيكون السؤال أبعد من: "هل للشماليّ الحقّ في صنع فيلم عن الجنوب، أم لا؟"، ويصبحُ عودةً إلى جذره الإبداعي: "لماذا يصنع أيُّ سينمائيّ أيّا من أفلامه؟".

ومع هذا، سيبقى الشماليّ يصنع أفلاما في الجنوب وعنه، وما على أبناء الجنوب إلا أن يعرفوا كيف يواجهون ما تتضمنّه أفلامه، وفي الوقت نفسه أن يُنجز مخرجو الجنوب أفلاما في الجنوب وعنه.
لكن المشكلة في ما تقوله تتعلّق بفرص تمويل أفلام جنوبيين عن الجنوب، أو عرضها. يعني إذا جاء مخرجان اثنان من الغرب إلى بيروت اليوم، وصنع كلّ واحد منهما فيلما عن الثورة اللبنانية، لنفترض أنّهما سيكونان فيلمين جميلين، وسيحبّهما اللبنانيون. عندها، ستضيق النوافذ والأبواب على السينمائيين اللبنانيين، الذين يشتغلون أفلاما عن الثورة اللبنانية.

لستُ ضد أن يصنع الغربيّ فيلما عن لبنان. لكن، مهما تكن نواياه، فهو يُصادر فرصة السينمائيّ اللبنانيّ في صنع فيلمه عن الثورة في لبنان. المهرجانات الكبرى والمحطات التلفزيونية وموزّعو الأفلام يُفضّلون غالبا الإنتاج الغربي الذي ينتمي، ثقافيا وجماليا، إلى النموذج السائد في الغرب. اللبناني سينجز فيلما، لكنه لن يعثر إلا على زاوية يعرضه فيها.

في هذا الإطار، ماذا عن "مهرجان أمستردام"، وعن كيفية التصرّف إزاء حالة كهذه؟ ما هو الدور الذي يلعبه؟
لا ألغي فيلمَ الشماليّ عن الجنوب إنْ يكن أصيلا في دوافعه ولغته السينمائية. لكنّي أعطي الأولوية للفيلم المقبل، عضويا، من المساحة التي يتناول فيها موضوعه.

الأفلام جيّدة في الجنوب والعالم الثالث، أو أية تسمية تريد. لكن، هناك تاريخ يجعل سينمائيين كثيرين يشعرون أنّ المهرجانات، كمهرجان أمستردام، لا تُرحّب بهم وبأفلامهم، وإنْ تُرحّب، فهي تضعهم وتضعها في الصفّ الثاني، أو تؤطّرهم بوصف أفلامهم "حقوقية" أو "إنسانية"، وتتركها خارج التقييم السينمائي الجاد، أو أنّها تختار أمثلة قليلة منها وتضعها على الغلاف، لمنح انطباع بسعة التمثيل الدولي.

ما يحصل هنا، كما أعتقد، وما اشتغلته العام الفائت، أوصلا رسالة مفادها أنّ هذا المهرجان ينظر الآن إلى الأفلام من دون تفرقة بين غني وفقير، وأنّ فيلما من الهند أو كينيا أو البرازيل يملك فرصة حقيقية ليكون في الصفّ الأول للأفلام التي يُقدّمها المهرجان. شُغل العام الفائت يبثّ شيئًا من الأمل بأنّ باب المهرجان مفتوح لهم بشكل جدّي. هذا مُترجَم بعدد الأفلام التي تلقيّناها هذا العام من الجنوب.

هذا لا يمنع وجود انتقادات عديدة، كاتّهامي بأنّي أكره البيض، ومساءلة أهمية "مهرجان أمستردام" بالنسبة إلى الأوروبيين، بعد منحه هذه الأهمية لسواهم.

أمس، تعلّمت شيئًا من ضيف الشرف لهذا العام، المخرج باتريسيو غَزْمان. تابعت عمله سنين طويلة. الصناعة الأوروبية تنتقده أعواما مديدة لإصراره على صناعة مزيد من الأفلام عن وطنه تشيلي. كثيرون يُكرّرون أنّهم يشعرون بالملل من أفلامه عن الليندي وبينوشيه. بقي هو يصنع أفلاما عن تشيلي، أما نقّاده فصمتوا.


هذا ينطبق إلى حدّ ما على السينما العربية الجديدة، في مواجهة الموقف الأوروبي العام.
أعتقد أنّ السؤال الجوهري بالنسبة إليّ هو الطموح السينمائي، ومدى تحقّقه في السينما الوثائقية العربية اليوم. فالمسألة ليست فقط ما أرغب فيه كمدير فني للمهرجان، بل مزيج من هذا كلّه، وصولاً إلى روائع الإنتاج في العالم العربي، الذي يشهد حاليا موجة جديدة من الأفلام الاستثنائية، من مغربه إلى مشرقه. صحيح أنّ عددها ليس كبيرا، لكنها تثبت نفسها في مساحة المهرجانات الدولية.

هذا جزء من عملي: إيجاد توازن في الحضور بين السينمات العربية والأفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية. الحصّة الأكبر هذا العام هي لأميركا اللاتينية. هذا ليس تفضيلا لمنطقة على أخرى، بل إنّه متأتٍ من كون "الموسم" كبيرا في تلك الجغرافيا، التي تصنع أفلاما جيدة هذا العام، أقلّه بحسب الأفلام المرسلة إلينا. العالم يصنع أكثر من 400 فيلم، وهذا مُرسل إلينا. بالتالي، لم أسمع حتى الآن انتقادات من قبيل محاباة السينما العربية مثلا. لكني متيقّن أنها ستأتي في لحظة ما، وسأرحّب بها، ولن أدافع عن السينما العربية والعروبة، بل عن أفلامٍ نختارها لأننا نرى فيها قيمة سينمائية وثقافية حقيقية.

أينطبق هذا أيضا على المرأة؟ في دورة هذا العام، تُبيِّن الإحصاءات أنّ لها حصّة كبيرة.
القيمة النهائية هي التي تمنح الشرعية للأسئلة المتعلّقة بالجندر والجغرافيا. بفقداننا المرجع الأول، الذي هو السينما، تُصبح المعايير الأخرى من دون قيمة.

لكنّ واقع عالم السينما ليس ببساطة أنْ أزعم، كما يفعل مدراء مهرجانات أخرى، أنْ لا فرق بين ذكر وأنثى، وبين عربي وأميركي، إلا بالسينما. لأني، كمدير للمهرجان، أتلقّى نحو 700 فيلم أميركي سنويا، منها 100 فيلم على الأقلّ مصنوعة بميزانيات عالية، وبحِرَفية أميركية نعرفها جميعا. في المقابل، أتلقّى 20 فيلما من "كلّ" قارة أفريقيا، معظمها لمخرجين لم أسمع بهم أبدا، وبعضها يحمل قيمة فنية وسينمائية عالية، لكنها تفتقد الحِرفة التقنية التي يعتادها الجمهور. وعليه، فإنّي أتقصّد البحث عن الأفلام الجيّدة في تلك الـ20 فيلما. أمّا إذا لم يكن بينها فيلم واحد جيّد، فلا حول ولا قوّة.

دعني أخبرك شيئا: ليس لديّ تعاطف مسبق أو شعور بالشفقة على من يشتغل في السينما في ظروف صعبة، بل أرى في الجندر والجغرافيا مسألة عدالة فقط. لكن، لماذا الحاجة إلى التركيز على أفلام المرأة؟ ليس لأنّي مؤمنٌ بالفكر النسوي، بل لأنّها، ببساطة، قضية ظلم مُعمِّر، وسأقف في صفّها كما أقف في صفّ أية قضية ظلم أخرى.

هل من جديد في الدورة الـ32 هذه؟
التجديد في مجال الـ"فوروم إدْفا"، وهو اللقاء المهنيّ لتقديم مشاريع الأفلام، ولاستمرار تمويلها. مشهورٌ بتصميمه الثابت والرصين: 7 دقائق لعرض المشروع، و8 أخرى لتلقّي ردود الفعل. هذا نابع من تاريخ تسلّط التلفزيون على الفيلم "التسجيلي"، الأمر الذي يتغيّر اليوم، مع عرض مزيدٍ من الأفلام الوثائقية في صالات السينما، ومع السلطة الجديدة لمنصّات، كـ"نتفليكس" و"أمازون" وأخواتهما.

وعليه، تمّ تغيير الصيغة، لتصبح أكثر انفتاحا على احتياجات كلّ مشروع فيلم بحدّ ذاته، بحيث يمكن أن تتنوّع مُدَد المشاريع في اللقاءات بين أصحابها والمتخصّصين السينمائيين، وتتأقلم مع تنوّع مشاريع الأفلام.

هذا واقعٌ لم يعد ممكنا إغفاله اليوم.

المساهمون