عامًا تلو آخر، ينشغل عربٌ عديدون ـ في فترة كهذه ـ بأفلام عربية تختارها مؤسّسات رسمية عربية لإشراكها في التصفيات الأولى لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي. في 22 يناير/ كانون الثاني 2019، تُعلن الأفلام المرشّحة رسميًا في الفئات كلّها، وفي 24 فبراير/ شباط 2019 تُعلن النتائج الخاصّة بالدورة الـ91 لاحتفال "أكاديمية فنون السينما وعلومها" وتوزّع الجوائز. وعامًا تلو آخر، وفي الفترة نفسها أيضًا، يقع كثيرون في خطأ واحد يتكرّر كل مرّة، إذ يقول عربٌ كثيرون إنّ الفيلم الفلاني "مُرشّح" البلد الفلاني للجائزة، من دون التأكّد من قواعد الترشيح والتواريخ المنشورة في الموقع الإلكتروني الخاص بالأكاديمية.
هذا مُكرَّر. النقاش حول أهلية هذا الفيلم أو ذاك للاختيار مُكرَّر هو أيضًا. لكن الأهمّ من ذلك كلّه يبقى كامنًا في الفيلم بحدّ ذاته، سينمائيًا وجماليًا ودراميًا وتقنيات. لعبة المقارنة بين الأفلام المختارة مُغرية، كإغراء لعبة المقارنة بين الأفلام المختارة وغير المختارة أيضًا. لكنها لعبة لن تؤدّي إلى شيء مفيد، باستثناء تفعيل نقاش نقدي حول الأفلام كصناعة سينمائية، رغم أن لـ"أوسكار" سطوة لن يكون صحيحًا تجاهلها أو التغاضي عنها.
الاختيارات الجديدة قليلة العدد. 7 أفلام عربية (لغاية الآن) ستُشارك في التصفيات الأولى: "كفرناحوم" للّبنانية نادين لبكي، الفائز بجائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي؛ و"يوم الدين" للمصري أبو بكر شوقي، المُعروض للمرة الأولى دوليًا في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 لمهرجان "كانّ" أيضًا؛ و"إلى آخر الزمان" للجزائرية ياسمين شويخ؛ و"بيرن آوت" للمغربي نور الدين لخماري؛ و"اصطياد أشباح" للفلسطيني رائد أنضوني، الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ67 (9 ـ 19 فبراير/ شباط 2017) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"؛ و"على كفّ عفريت" للتونسية كوثر بن هنيّة، المعروض للمرة الأولى دوليًا في برنامج "نظرة ما" في الدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ"؛ و"الرحلة" للعراقي محمد الدراجي.
في مقابل قلّة العدد، تغتني الأفلام المختارة بمواضيع راهنة، تعكس بعض الخراب الفردي والعام في مجتمعات عربية مختلفة. الإمعان في تفكيك بيئات وجماعات عبر سرد درامي لحكايات فردية جزءٌ من سينما يجتهد صانعوها في معاينة الآنيّ بمستوياته كلّها. الواقع اليومي مرير، والأفلام معنية به وإنْ بتفاوت جمالي ودرامي بينها.
الوثائقي الوحيد ("اصطياد أشباح"، "ضفة ثالثة" في "العربي الجديد"، 1 أبريل/ نيسان 2017) يُعيد بناء سجن المسكوبية في القدس المحتلّة، كي يُوثّق ـ مع سجناء فلسطينيين يعرفون السجن نفسه ويعانون قسوته ـ مرحلة وحالة فلسطينيتين في ظلّ احتلال إسرائيلي قاتل. نتائج أولى لـ"الربيع العربي" ماثلةٌ في "على كفّ عفريت": النظام البوليسي القامع غير متبدِّل، بل إنه يزداد وحشية وصلابة. سؤال العمليات الانتحارية جزءٌ من النواة الدرامية لـ"الرحلة"، والمسار الذي تمرّ به شابّة انتحارية يكشف ارتباكات ومخاوف وتساؤلات. العيش في الانهيار المتنوّع في بلدٍ مثل لبنان عنوانٌ أول وأساسيّ لـ"كفرناحوم"، المحتاج إلى تأهيل سينمائيّ جذريّ رغم أهمية المسائل المطروحة وآنيّتها.
نماذج قليلة، لكنها تؤكّد جمالية التورّط السينمائي بأحوال راهنة. "يوم الدين" يغوص في حكاية فرد مُصاب بمرض الجذام، يُقرِّر البحث عن أهله المتخلّين عنه منذ سنين بعيدة، فتتحول الرحلة إلى مسار سينمائي يجمع شيئًا من فانتازيا الصورة بكثيرٍ من الوقائع القاسية والمريرة. الموت جوهر "إلى آخر الزمان" وركنه الدرامي المفتوح على أحوال وماضٍ. قاع المجتمع وبيئاته المنصرفة إلى خرابٍ ومواجع حاضرٌ في "بيرن آوت" عبر شخصيات تتحوّل إلى مرايا مدينة (الدار البيضاء) وحالات.
أفلام كهذه جزءٌ من حراك سينمائيّ عربيّ حيويّ ومنفتح على الأسئلة كلّها والجماليات كلّها.