عتبة الترجمة

29 اغسطس 2020
سيرجي بولياكوف/ روسيا (مقطع من لوحة)
+ الخط -

نعرف أنَّ مقدّمة الكُتب هي ما يتصَدَّرُها، لأنها مُفتَتح العمل ومفتاحه، بما تتوافر عليه من اسم المؤلِف، والإهداء، ومعلومات متنوّعة توضِّح أسباب تأليفه، وأهمية ما يُعالجه، والصعاب التي واجَهها مؤلِّفه، وتوجيهات مختلفة للقارئ لكي تكون قراءتُه مُثمرة؛ فيُفيد من التأليف إلى أقصى حدّ ممكن.

والمعروف أنَّ هذه المقدّمات هي آخر ما يكتُبه المؤلِّف بعد انتهائه من تحريره لعمله، سواء كان إبداعياً أو علمياً، وأنّ الناقد الفرنسي جيرار جينيت أفردَ لهذه المميّزات النصية كتاباً أسماه "عتبات"، أشار في مقدّمته إلى أنَّه "نادراً ما يُقدَّم النص عارياً، دون سند ومصاحَبة من عدد معيَّن من المنُتَجات." وأضاف جينيت أنّ هذه النصوص المصاحِبة للنص هي المعروفة بالنص الموازي، وهي "بالنسبة إلينا ما به يَصيرُ نصٌّ كتاباً ويطرح ذاتَه بصفته كذلك على قُرّائه، وبشكل أعَمَّ على الجمهور".

وكذلك الحال مع مقدّمة الكتُب المترجَمة، التي تُحرَّر هي الأخرى بعد انتهاء المترجِم من عمله، وغالباً ما يتطرَّق فيها إلى قيمة العمل، وموقعِه ضمن سيرورة الفن أو العلم، وأهمّ قضاياه، والدافع إلى نقله، والصِّعاب التي اعترضتْ مترجِمَه.... وقد يتناول هذا المترجِم نفسُه في مواضع غيرِ مقدّمَته أموراً فيُدرجها في الهوامش، والشروح، والتنويرات، والإضاءات، والإضافات، والاستدراكات، وسواها... فتصير هذه المقدّمةُ والنصوص الأُخرى المصاحبة للترجمة خطاباً مُستقلّاً وموازياً للنص الأصلي (مناصات Paratextes) وبنيةً مجاوِرة لخطابِه، تسمح له بالامتداد تَحاوُراً وتفاعُلاً وسَط قُرّاء جدد.

من خلال عتبات النص وحواشيه، يُفصح المترجم عن حضوره شريكاً للمؤلِّف

والحقيقة أن الناشر بدوره يتدخَّل في فضاء الكتاب، فيُضيف مناصات بعينها، كالتصرُّف في إخراج العنوان بإضافة عنوان فرعي، أو إدراج صورة أو لوحة تشكيلية، أو تأطير العمل ضمن سلسلة؛ إلخ، بل إنّ جهات أخرى تضع مناصات دالَّةً على بعض الأعمال، كتلك التي أوردَها جينيتْ بخصوص إحدى الروايات، التي فازتْ بجائزة غُونْكُور الفرنسية؛ حيث ذكرت اللجنةُ المسؤولة عن نشر الرواية الفائزة، والتي يُتوقَّع الإقبال الكبير عليها "يَلزَمنا أنْ نطلب الصفح من الجمهور بتقديمنا إليه هذا الكتاب، وتنبيهِه إلى ما سيَعثر عليه طَيَّه. يُحبُّ الجمهور الروايات المزيَّفة: هذه الرواية روايةٌ حقيقية." ولا يخفى أن لهذه التدخّلات تأثيراتٍ على القارئ.

عند هذا الحدّ يتوقَّف عمل المؤلِّف والناشر، وأحياناً يشرع مفهوم المؤلِّف بالخصوص في الالتباس، إن لم نقل في التراجع، لتبدأ سطوة المترجِم في الإعلان عن ذاتها، وهو ما نبَّه إليه جينيت بقوله، مثلاً: "عادةً ما يكون المؤلِّفُ مُهْدِيَ الكتاب. هذه إجابة خاطئة، لأن بعضَ الترجمات يُهديها المترجِم؛ [...] إن مفهوم "المؤلِّف" ليس دائماً واضحاً وجلياً".

إذن، المسلَّمُ به هو أنّ النصّ الأصل حين انتقاله إلى ثقافة مُضيفة يُقدَّم في إهاب آخر، لعل أبرز تجلّياته حواشي المترجم التي تحظى بالاهتمام الأكبر، بحكم أنَّ واضعَها يُفصح عن حضوره شريكاً للمؤلِّف الأصليّ في نصِّه؛ ولأنه يجعل نصّ المؤلِّف الأوَّل يتخلى ضِمنيّاً عن كونه كياناً قائماً بذاته، بسبب توجيهه إيّاه وَفق فهمِه للنص الأصلي، فيُفهِم مُتلقيَ الترجمة ما فهِمَه، أي تأويلَه، والذي يُعلِن بهذه التدخُّلات عن تحكم صريح في القراءة، طالما أنَّ تلك المناصات تصير نصّاً موازياً ومستقلاً بذاته.

يصير النَّصّ محلّ نزاع بين مؤلِّفه الأصليّ ومُعيد كتابته في الثقافة المنقول إليها؛ ذلك أن الأوَّل يَدين إلى الثاني، لكونه يعرِّف به ويمنح لعمله، وَفق والتر بنجامين، فرصة الاستمرار في الحياة باقتحامه فضاءات ثقافية جديدة، والثاني يُحسّ، لا محالة، أنه مَدين إلى الأوَّل، لأنَّ مهمَّته ترتهن إلى الفرصة التي يُتيحُها له الأوَّلُ باقتحام عالَم الكتابة.

بالعتباتِ تمنح الترجمةُ نفسَها فرصة الإعلان عن ذاتها باعتبارها قراءةً خاصة، وأن تُبرزَ ذاتَها منازِعةً لمِلْكيّة النص، حتى إنّ بعضَ الكُتب التي لها مؤلِّفوها الشهيرون تصير منسوبة إلى مترجم دون آخر، في بعض اللغات والثقافات، كما "الاستشراق" في ترجمَتيْه إلى العربية.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون