لا يكاد الأدب التركي المترجَم إلى اللغة العربية يُذكَر إلّا مقترِناً باسم عبد القادر عبد اللّي (1957 - 2017) الذي اكتشفَ القارئُ بالعربية، من خلاله، قاصّاً وروائياً اسمُه عزيز نيسين (1915 – 1995)؛ حين ترجَم روايته "زوبك" عام 1989.
كان ذلك أوّلَ كتابٍ ينقله المترجم السوري، الذي مرّت قبل أسابيع ذكرى رحيله الأولى، من التركية إلى العربية، بعد أن ترجَم مجموعةً من القصص التركية ونشرها في صحيفة "إدلب الخضراء" منذ بداية الثمانينيات.
لعلّ الإقبال الكبير على رواية "زوبك"، التي صدرت ترجمتُها العربية في خمسة عشر ألف نُسخةٍ ثمّ جرى تحويلها إلى مسلسلٍ تلفزيوني، فتَح شهيّة عبد اللّي لترجمة المزيد. هكذا، راح يُترجم لأسماء بارزةً من مختلف التيارات الأدبية التركية، حتّى بلغ مجموع ترجماته ثمانين كتاباً، تُضاف إلى أكثر من عشرين مسلسلاً تلفزيونياً وفيلماً وثائقياً ترجمها إلى العربية.
يقول الكاتب السوري خطيب بدلة (1952) إن "الكتّاب الأتراك كانوا محظوظين بوجود عبد اللّي الذي أوصلهم إلى ملايين القرّاء العرب"، مشيراً، خلال ندوةٍ تكريمية نظّمها "تلفزيون سوريا" ومكتبة "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" في إسطنبول، السبت الماضي، إلى أن الكمّ الهائل من الأعمال التي ترجَمها "يُؤكّد أننا أمام طاقةٍ استثنائية".
وهو يتحدّث عن منجَزه في الترجمة والنقد والفنّ التشكيلي، لا يتردّد بدلة في وصف عبد اللّي، الذي جمعته به صداقةٌ منذ 1987، بالشخصية الغريبة والإشكالية: "رسَم لوحاتٍ سريالية في إدلب خلال مرحلة الثمانينيات. وكان ذلك أمراً جنونياً وسابقاً لزمنه، بالنظر إلى البيئة التي رُسمت فيها. وبالفعل، أثبَتَ أنه أحد أهمّ الفنّانين التشكيليّين السوريّين".
رغم أنه درَس الفنّ التشكيلي ومارسه وكتب فيه، إلّا أن اسم عبد اللّي لا يُذكَر كفنّانٍ تشكيلي بالقدر نفسه مع الترجمة التي "أخذت منه وقتاً كبيراً على حساب التشكيل"، والعبارة الأخيرة لزوجته الرسّامة ومُدرّسة الفنون، سميرة بيراوي.
في المكتبة التي عُلّقت على جدرانها لوحاتٌ رسمها عبد اللّي خلال مراحل مختلفة من حياته؛ تطرّقت بيراوي إلى جوانب لا يعرفها الكثيرون عن صاحب "فرشاة"، وهو عنوان كتابٍ أصدره عام 2000، وجمع فيه مقالاتٍ في النقد التشكيلي نشرَها في عددٍ من الصحف والمجلّات.
سنعلَم أن علاقة عبد اللّي بالرسم بدأت منذ الطفولة؛ "حين كان ينقل الرسومات من كتبه ويلوّنها... تنتبِه أمُّه التي كانت تعمل خيّاطةً إلى اهتمامه، فتطلب منه مساعدتها في إنجاز الرسومات التي تعمل على تطريزها". تعني الخِياطةُ، بشكل ما، وجود خلفيةٍ تشكيلية لدى الأمّ. وبطلبها مساعدةً من ابنها، إنما كانت هي من يُساعده.
في الثانوية، خصّصت الأم غرفةً مستقلّةً لابنها في "العليّة" ليُمارس هوايته، ثمّ تُساعده ليُقيم أوّل معرضٍ تشكيلي له. كان ذلك في "ثانوية المتنبّي" سنة 1974. بعد حصوله على "البكالوريا"، يُشارك الفتى في امتحانٍ للالتحاق بـ"كليّة الفنون" في دمشق فلا ينجح فيه. يعود إلى مسقط رأسه؛ إدلب، فيُرسله والده إلى القاهرة ليدرُس في "كليّة الفنون" هناك. ولأن الرحلة المصرية تزامنت مع ما سمي "زيارة السادات" لـ"إسرائيل" عام 1977 وما أعقبها من مقاطعةٍ عربية للنظام المصري، سيُلملم حقائبه عائداً إلى إدلب مجدّداً، على غرار الطلبة العرب الذين طُردوا من مصر.
العودة السريعة من مصر ستفتح باباً إلى تركيا. تُواصل بيرواي استعادة بدايات عبد اللّي، قائلةً إن والدَه أرسله، بعد عودته من القاهرة، إلى صديقٍ له في تركيا، وطلب منه مساعدته في التسجيل في كليّة الطب، لكنه سجّل في "أكاديمية الفنون الجميلة" في "جامعة المعمار سنان" في إسطنبول، ثمّ أجاب أباه الذي اعترض على ذلك: "أن أكون فنّاناً ناجحاً، أفضل من أن أكون طبيباً فاشلاً".
تُخبرنا بيراوي بأن عبد اللّي كان يرغب في إكمال الدكتوراه في النمسا. غير أنه اضطرّ للعودة إلى إدلب بطلبٍ من أبيه. وهناك تعرّفَت إليه. تُضيف متحدّثةً عن الجانب الشخصي من حياته: "كان ديمقراطياً مع أبنائه، ودائماً يُقدّمني كصديقةٍ وليس كزوجة. وعلى عكس كثيرٍ من الكتّاب، كان يكتب في البيت وسط أسرته، وكثيراً ما كان يطلب آراءنا في ترجماته ولوحاته".
وعلى ذكر اللوحات، تُردف أن آخر أعماله التشكيلية في سورية كان مع بداية الأحداث عام 2011 بعنوان "مظاهرة". أمّا آخر لوحةٍ رسمها، فكانت في تركيا سنة 2012، وعنوانها "بركان".
رحَل عبد اللّي في مدينة أضنة التركية بعد صراع مع السرطان. وكان عدنان عبد الرزاق أحد أصدقائه الذين لازموه خلال مرضه. يقول الصحافي السوري أنه "من الضروري التأريخ لتلك الفترة التي كانت أهمّ وأخطر فترات حياته... كان يرفض فكرة الموت، وكتب مقالاً قبل رحيله بيومٍ واحد".
يصف عبد الرزاق المترجمَ والناقد والتشكيلي السوري بأنه كان "ذا طاقة غريبة، بسيطاً بساطة العارف والمجرّب، مركَّباً على مستوى شخصيته ومنتَجه، عنيداً ومبدئياً لدرجة أنه مستعدٌّ لخسارة حقوقه"، مضيفاً بأن مبدئيّته المفرِطة جعلته يظلم نفسه؛ "من يمتلكون جزءاً صغيراً من إنتاجه افتتحوا مكاتب علاقات عامّة. أمّا هو، فكان يخجل من القول إنه كاتب ورسّام".
يروي عبد الرزاق موقفاً قال إنه أثّر كثيراً في الكاتب والتشكيلي الراحل: "كان لديه أصدقاء كثر من اليسار التركي، لكنه خسر كثيراً منهم حين عاد إلى تركيا مع بداية الثورة السورية، وأعلن انحيازه للشعب السوري".
أمّا الكاتب والمترجم والأكاديمي التركي، محمد حقّي صوتشين (الصورة)، فتحدّث عن إنتاج عبد اللّي الترجمي، قائلاً إنه ترجَم لأسماء تُمثّل جميع أطياف الأدب التركي؛ من أدبٍ ساخر (عزيز نسين ومظفّر إيزغو وخلدون طانير) وواقعيةٍ اشتراكية (أورهان كمال ويشار كمال وفقير بايكورت)، وسرد تاريخي (أحمد أميد ومراد تونجير وخليل إبراهيم أوزجان وسركان أوزبورون وإسكندر بالا وإيشيك سوكان وأوكان تِرْياكي أوغلو وسيبل أوز أرصلان وغيرهم)، وواقعية سحرية (لطيفة تكين وأليف شفق)، وأدب ما بعد الحداثة (أورهان باموك)، إضافةً إلى أعمال تاريخية غير أدبية (إيلبير أورطايلي الذي ترجم له أربعة كتب).
يُضيف بأن عبد اللّي ترجم روايتَين تُعالجان أزمة الهوية التركية بين الشرق والغرب وتُعتبران نقطةَ تحوُّل في تاريخ السرد التركي؛ هما: "معهدُ ضَبط السّاعات" و"طُمأنينة" لأحمد حمدي طانبينار الذي مهّد الطريق لروائيين بارزين؛ مثل: أوغوز آتاي وأورهان باموك.
ويلفت صوتشين إلى أن ترجمات عبد اللّي لم تقتصر على السرد، بل امتدّت إلى الشعر التركي بمراحله المختلفة؛ إذ ترجَم جميع أعمال أورهان ولي الذي يُعدّ من أبرز شعراء حركة "غريب" التي ظهرت في الأربعينيات.
تلك الخيارت الترجمية، تدلّ، على إلمامٍ جيّد بالأدب التركي بمختلَف أنواعه وأسمائه وتيّاراته، وفق صوتشين، الذي يضيف بأن عبد اللّي "احترم ثقافةَ المصدر ونقلها بطُرُق حكيمة، وبأسلوب سلس يُراعي أخلاقيات الترجمة".
"تركيا بعيوني": دراما ثقافتَين
خلال الندوة، قدّم محمد حقّي صوتشين كتاباً من إعداده، جمَع فيه عدداً من مقالات عبد القادر عبد اللّي، بعنوان "تركيا بعيوني"، وهي عبارة تُقرأ بطريقتَين مختلفتَين: تعني الأولى تركيا كما رآها المترجِم السوري، وتُؤكّد الثانية مكانتها لديه.
يتضمّن العمل، الذي صدر حديثاً عن "دار ميسلون للطباعة والنشر والتوزيع"، مقالاتِ وحاورات كتبها عبد اللّي ونشرها في عددٍ من الدوريات في أربعة محاور؛ هي: الثقافة والأدب والترجمة والفنون. وفيها، يُقدّم مقارباتٍ لقضايا متّصلة بالثقافتَين التركية والعربية.
في الفصل الأوّل؛ "أضواءٌ على الفكر والثقافة، نقرأ مقارباتٍ حول مواضيع مختلفة؛ مثل الصور النمطيّة للمسلم التركي في الغرب، وإشكاليات التاريخ المشترك والقيم المشتركة بين العرب والأتراك، والدوريات الثقافية التركية، وتأثير الدراما التركية في المجتمعات العربية، إضافةً إلى مقارناتٍ لمسائل فلكلورية بين الثقافتَين؛ مثل الأزياء والأمثال الشعبية.
ويُلقي الفصل الثاني، "الأدب التركي من منظور مترجمه"، الضوء على نصوص نقدية كتبها عبد اللّي انطلاقاً من الأعمال الأدبية التي ترجمها، فيتطرّق إلى موضوعاتٍ من قبيل الرواية التاريخية التركية، والأدب الإسلامي التركي و الأدب النسوي العثماني، إلى جانب قراءات في عددٍ من الروايات التي ترجمها.
ويتناول الفصل الثالث، "قضايا الترجمة نظرياً وعملياً"، فيتناول فيه الجانبَين النظري والعملي لعملية الترجمة انطلاقًا من تجربته الشخصية؛ حيث يُلقي الضوء على إشكاليات الترجمة بين اللغتين العربية والتركية، وترجمة الرواية، وترجمة القرآن. كما يتطرّق إلى القاص السوري حسيب كَيّالي بوصفه مترجِماً.
ويتضمّن الفصل حواران أجراهما معه كل من خليل الهملو وعدنان عبد الرزاق (العربي الجديد)، يتطرّق فيهما إلى مسائل يجهلها القارئ العربي عن الثقافتين العربية والتركية، كما يُضيء فيهما على جوانب من سيرته.
في الفصل الرابع والأخير "الفنون وما يتّصل بها"، يُثير عبد اللّي موضوعات مختلفة عن الفنون، فيتطرّق إلى الاتجاهات الفنية التركية، والاستشراق الفنّي، والعلاقات الفنّية المشتركة بين العرب والأتراك. ويتطرّق أيضاً إلى رائد الحداثة التشكيلية التركية، عابدين دينو، الذي يشبّهه برائد قصيدة النثر التركية ناظم حكمت.
يقول صوتشين إن الكتاب يقدّم مادّة هامّة للباحثين الذين يقومون بدراسة الجوانب النظرية والعملية لترجمات عبد اللّي، وللباحثين في مجال دراسات الترجمة بشكل عام، معرباً عن أمله أن يكون "بدايةً لسلسلةٍ من الأعمال التي تُخلّد الميراث الثقافي الضخم الذي تركه اسم يُعدّ نافذة مشرعةً على المشهدَين التركي والعربي".