على امتداد ثلاثة طوابق تنتشر، أعمال أكثر من ثمانين فناناً مغربياً بين رسمٍ ونحتٍ وفوتوغراف وتجهيز وفيديو. اختار منظمو المعرض أن يوزعوها على القاعات بحسب الاتجاهات أو الموضوعات التي تجمع الفنانين، كقاعة "الصوفية" التي تحوي عمل تجهيز ليونس رحمون وأعمال فوتوغراف لناجية ميهادجي، بالإضافة إلى مجموعة من أعمال التّشكيلي الراحل فريد بلكاهية الذي غادرنا منذ فترة قصيرة. قد نكون بحاجة إلى مساحة التّأمّل تلك قبل الدخول إلى عالم عبد الرحيم يامو الذي يعجّ بالتفاصيل.
في القاعة المخصصة لأعماله (رسم ونحت) نشاهد لوحة ثلاثيّة تمثل عوالم يامو النباتية، تدفعك عناصرها "الميكروسكوبية" إلى الاستغراق في تفاصيلها الدقيقة، فتحسبها تسبح ببطء داخل فضاءات ملونة حيث يتمازج الأبيض مع الأسود والأحمر.
الرسم عند يامو (1959) حالة مركزيّة بكل جدارة، مقارنةً بالنحت الذي يعتبر مُكمّلاً لفعل الرّسم لديه. تتيح اللوحة، باعتبارها فضاءً للتجريب، للفنان اختبار تكويناته العضويّة وأشكاله النباتيّة ضمن خيارات متجدّدة، مضيفاً عليها أحياناً عناصر من خارج بيئتها، كاليد، مزاوجاً بين البشري والنباتي وبين الواقعي والتجريدي.
أحياناً، يقترح يامو تقسيم سطح اللوحة إلى فضاءين غير متجانسين؛ فنصبح أمام عالمين متجاورين يربطهما اللون بشكل أساسي. المتأمل بتطور التجربة الفني لديه، يلاحظ أن الإمكانيات التي تتيحها اللوحة وأدوات التصوير الزيتيّ للفنان مختلفة عن إمكانيات النحت.
إن أعمال يامو النحتيّة لا تتقاطع بالضرورة مع تجربته في الرسم من حيث النتيجة البصرية، ولكنها تلخّص، بشكل أو باَخر، علاقته مع مفهومي الحيّ والميّت. في عمل "أعمدة متمايلة"، حيث تنتصب أربعة أعمدة خشبية سوداء، لها شكل قضيبي وتغزو سطحها المسامير، يختار الفنان أن يضع على قممها نباتاً طبيعياً.
يقابل الأعمدة المتمايلة، في الطرف الآخر من القاعة، نحتٌ من نفس الروح، يمثّل جذع امرأة مغطى بالمسامير، يدها تستطيل لتلتف عليها محاكية شكل الثعبان. اسم العمل "ليليث" زوج آدم الأول قبل حواء. وهي، بحسب الأساطير، امرأة الليل، المرأة الثعبان، تعتبر أحياناً مصدراً للشّر وقد تكون أقدم تمثيل للمرأة الثائرة. المسامير كرمز للقسوة والموت هي العناصر التي يعتمدها الفنان في أغلب أعماله النحتية، يدقها بكثافة على "جلد" الأشكال والأجساد الخشبية التي تنتمي بشكل طبيعي إلى الحياة.
في قاعةٍ أخرى، تحمل عنوان "تساؤلات في المعتقدات"، وتشمل أعمال فنانين كمنير فاطمي وسعيد عفيفي، تمثل تصوراتهم عن العلاقة بالمعتقد الديني كل حسب أسلوبه. على قاعدة خشبية كبيرة يرتفع عمل نحت آخر ليامو بعنوان "ستة وثلاثون منجلاً" يمثل جذع شجرة مقطوعاً تبرز فوقها مجموعة من المناجل المعدنية السوداء، مزروعة على رأس الجذع العاري باتجاه واحد. الشّكل الحاد للمنجل وبرودة المعدن تذكّر بالمسامير وتحيل مباشرة إلى فكرة الموت.
ينتمي هذا النحت إلى مجموعة تمثل تنويعات على نفس الموضوعة، حيث يتغير تشكيل المناجل لتأخذ شكل تاجٍ أحياناً كما في عمل "الشجرة المتوجة" وأحيانا شكل قوائم الكرسي محاصرةً الجذع الخشبي من كل الجهات، كما في عمل "الشجرة والكرسي". تعكس هذه المجموعة، المنفذة خلال عام 2010، العلاقة الجدلية بين المادي والروحي، بين الحياة والموت، ثنائيات لا يمكن لأيّ من طرفيّها أن يوجد من دون الآخر.
صحيح أن موضوعة النبات أو "الاستنبات" كانت قد تبلورت لدى يامو منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي، غير أن تجربته التشكيلية، بشكل عام، صعبة التصنيف فهي تنتمي إلى مرجعيّات مختلفة واقعية علمية وشعرية. كما أنها تحمل تأثيرات عديدة، ما قبل تاريخية، تشخيصية وتجريدية.
التجريد عنده أشبه بالمؤشر الذي يعكس تعلُّق الفنان المتين بعالم النباتات والتفاصيل المجهرية. ورغم محاولة الفنان الفصل بين ما هو علمي واقعي وبين ما هو ابتكاري متخيّل، تبقى التأثيرات "العلمية" حاضرة. وهذا غير مستغرب إذا عرفنا أن الفنان كان قد درس البيولوجيا وعلم الاجتماع في مدينة تولوز الفرنسية قبل احترافه الفن بداية التسعينيات.
في بداية احترافه، كان يامو يعتمد على المواد الطبيعية كالرمل والطين، ضمن مشهد مشحون بالرموز تذكّر بأعمال الفنان الإسباني تابييس. أعماله "النباتية" التي اشتهر بها لاحقاً تتقاطع من حيث الموضوعة مع مجموعة "زنبق الماء" للفنان الفرنسي كلود مونيه، لكن ألوانه بعيدة عن المزّاجة الانطباعية.
وكما مونيه الذي استلهم كثيراً من حديقته، يستقر عبد الرحيم يامو، منذ عام 2005، في تحناوت جنوب مراكش حيث تشكل طبيعة المكان حقلاً للاكتشاف والمراقبة ومختبراً لتطوير مفردات حديقته المتخيلة.