عبد الأمير جرص: كما لو أنّه غادر حانة

14 مايو 2015
"عبدالأمير جرص" لـ معز أنور
+ الخط -

وكأن العالم أدمن خذل الشعراء، وترَك الموت يبتدع طرقاً للانقضاض على حيواتهم التي تشبه الفضيحة. هكذا هو الموت المعلن لشعراء عراقيين توزعتهم أرصفة المنافي وتلقّفتهم مقابر الغرباء. وقد يكون الشاعر عبدالأمير جرص (1965- 2003)، الذي تمر اليوم ذكرى رحيله القصيدة الأكثر درامية في ديوان الفجيعة العراقي.

فمن كان يصدق أن الفتى القادم من قيظ مدينة بغداد وموتها العبثي الذي يجول طليقاً في الشوارع والأزقّة والأسواق الشعبية، الفتى الذي لا يحتمل الصقيع حين يجتاح عموده الفقري، سيموت حين يهوي من فوق دراجة هوائية في مدينة "أدمنتون" في كندا.

ينتمي جرص إلى جيل التسعينيات الشعري، المنبثق من رماد حربين طاحنتين وحصار اقتصادي دولي قاسٍ. عوّض ضنك العيش بثراء القصيدة التي طوّع مفرداتها ليصوغ متوناً للرفض والتمرد على كل شيء، تمرّد على السلطة الشمولية التي دجّنت الشعراء لتكون قصائدهم مكرسة لمديح النظام والقائد الضرورة.

وحين تناسلت على جدران المدن العراقيّة مقولة "كل العراقيين الجيدين هم بعثيون وإن لم ينتموا"، تمنطق جرص بلعبة التناص التي تلتمع في كثير من قصائده، ليكتب: "واحدٌ أنا/ وإن انتميت/ واحدٌ/ وإن/ لم/ أنتمِ". بل ها هو كمن يشاكس النّص المقدس يكتب من دون تردُّد: "أعظم ما في الربّ../ أنه لم يولد".

لم يكن إصدار مجموعة شعرية تجمع قصائده المتناثرة حلماً يخطر على بال جرص، فذلك ترف حين يكون البحث عن ثمن كوب الشاي وكأس العرق المغشوش همّاً يومياً، لكن المصادفة وحدها قيّضت أن يتكفّل أحد معجبي الشاعر بطباعة مجموعته الأولى "قصائد ضدّ الريح" عام 1993، وهو ديوان متقشّف لا يزيد حجمه عن حجم الكف، فيما تبرّع صديق معجب آخر بطباعة المجموعة الثانية "أحزان وطنية" بعدد محدود من النسخ.

تلك الليلة تأبّط جرص أحزانه الوطنية، وبريبة الهارب من ميدان حرب، وزّعه كمنشور سرّي بين الأصدقاء. وبعد أن تيقن أن أحلامه سُفحت على طاولات الجوع والخوف، يمّم الشاعر وجهه صوب العاصمة الأردنيّة عمّان عام 1997، التي كانت أيامها محطة الصعود على متن قطار الهجرة نحو عواصم اللجوء.

لكنه لم ينسجم مع أجواء المدينة المغلقة، وربما المدينة ذاتها لم تنسجم مع تمرّده، فتوجه إلى ليبيا التي حصل على عقد للتدريس في إحدى مدارسها؛ لكنه مرّة أخرى لم يستطع العيش في مدن ضيقة تنظر إلى تمرده بازدراء، ليعود مجدداً إلى عمّان قبل أن يكمل عاماً في ليبيا. في إحدى قصائده يقول "أَبي/ يا أَبي/ لماذا لم تقل لي أنّ الأَرض أَصغر كثيراً من الشَّمس/ وأَنّ الماء يشغل ثلاثة أَرباعها/ أَبي/ لقد ظننتُها كافيةً لإيوائي".

قدّم جرص، ككل الأدباء والفنانين الهاربين من جحيم الحروب والديكتاتورية، ملفه إلى دوائر اللجوء، وبانتظار الهجرة، بقيت الحروب تتسلل من قصائده، وبقيت انزياحاتها تثير الدهشة، لكنه في لجة وحشته، بقي حالماً، ملتزماً بقصيدة تعيد سيرته المنكوبة. وكما لو كان يتأمل موته، يكتب عن حياته: "إنني أمارس حياتي/ على أنها هواية/ أو نزوة/ لم أكن قطّ جاداً/ في عام 1995، دخلت الثلاثين/ هكذا../ أي كما لو أنني أدخل../ حانة".

لم يتسنَّ لجرص أن يتلظّى طويلاً في الجليد، ولم يتسنَّ له أيضاً أن يتخلص من آلام عموده الفقري التي لازمته زمناً طويلاً، حمل قصائده وسخريته ورحل: "أنا ذا/ أحتشدُ كآلاف القتلى/ مُهدِّدًا الديناصور/ بانقراضي". رحيل عبدالأمير جرص كان سوريالياً، ولم يتح له أن يرى أعماله الشعرية التي ستصدر قريباً عن منشورات "الفيل" في القدس المحتلة.

دلالات
المساهمون