يشقُّ دمي هذا الاعتياد المريب لمقارعة صور الموتى، والتجرؤ على حياض قدسيتهم، بعد أن تسلل إليهم الموت، سواءً استدعوه هم وساقوا رحالهم إليه، أم أنه مارس هوايته معهم باستبدادٍ مفرط ومن دون موافقتهم!
إنه اعتيادٌ مفزعٌ ومريب، يطرق ناقوس الخطر، يبشر بهمجية ذاتيةٍ مفرطة نمارسها نحو ذواتنا وإنسانيتنا، نسخّر فيها كل شيء لهدم مركبات كيمياء الإنسان داخلنا وتبخير عناصرها إلى غير رجعة، أو اعتبارها جزءاً من نفايات لا يمكن حتى تدويرها.
ماذا بقي في آدميتنا عندما يتناول أحدنا هاتفَه المحمول ومازالت نفس الكف التي يحمله بها مبللة بدموعه على من فقد، ويلتقط صورةً لذلك المسجّى الغائب الذي رحل من بيننا وفقد قدرته في قول لا، أو تقرير ما إذا كان راضياً أو رافضاً لأن يتم تصوير جثمانه.
هل تراه لو عاد إلى الحياة ولو لثوانٍ سيرضى؟ هل سيومئ ملهوفاً لإبقاء صورته كاملةً وملامح وجهه بالذات ليس في الأذهان، وإنما في الشاشات والصفحات الزرقاء والهواتف المحمولة؟ هل سيصفّق لنا لقاء هذا العبث الهستيري في ابتكار أنماطٍ خاويةٍ من التسلية، والترويج المهين لثقافة اللاثقافة، لعبثية التهاوي المطّرد في استباحة الآخر وتملكه حتى بعد موته؟!
هل بلغ بنا التمرد على الجمال فينا مبلغاً يجرّنا نحو هاويةٍ سحيقة لا تلقي بالاً إلى القيم الفطرية والمنطقية معاً، فغدونا في سعارٍ تتريّ يملأ فراغه من جيوب الآخرين، ويصب من آلامهم وأوجاعهم في محافظ تسليتنا وثقوب فراغنا!
وإلا ما معنى أن نلتقط صورة لوجه ميت (شهيد أو غير شهيد/ مع الأخذ بالاعتبار مطاطية هذا المصطلح)، فقد قواه الجسدية وإرادته معاً وهو في طريقه نحو الصراط، بل ونتداولها ليس كجمهورٍ فقط، بل كأقارب وأصدقاء أيضاً، هل نزفه نحو مصيرٍ جديد باحتفاءٍ فرعونيّ مثلاً، أم أننّا نبارك له هذا الخلاص من آفاتنا وقيحنا بطقسٍ كرنفاليّ!
إنه الإنسان أيها البشر..
خليةٌ واحدة.. أو خليتان.. احتفظوا بهما في أجسادكم، لتفرز هورموناتٍ آدمية تنبّه مراكز الاستجابة في أدمغتكم.. وتحدث وميضاً لثوان يعيد الرؤية لعقولكم: أي كرامةٍ هذه التي تصورون بها ميتاً قد سلم الروح؟ أي ضميرٍ هذا الذي يترككم على عواهنكم بلا هوادة مستبدين على أنتن نهج، وأنانيين بأقسى صورة، وتتسلّون أقررتم أم أنكرتم، معطين لأنفسكم الحقّ فيما لا حقّ لكم فيه: أن تصوروا ميّتاً.
لو كان لهذا الميت عودةٌ ومضية، لرفض أن يستباح جسده وتخطف كرامته وتلتقط له الصور بحجة الذكرى أو التباكي أو التشهير، ولو على نطاقٍ ضيق، ولكتبَ على أقلَ تقدير وصيّةً يخادع نفسه بها يمنع أو يسمح فيها بذلك.
فركٌ بسيط لزجاج نظاراتنا، يعيد البوصلة إلى الخط الموصول بين الذات والعقل، وسيؤشر حينها إلى أن هذه ممارسة سافرة لا إنسانية مجردة من كل مسؤولية ومنطق وضمير، ولابد أن يصدر تشريع قانوني يجرمها ويحاكم فاعليها بلسان من غاب وأصبح غير قادرٍ على نيل حقه.
(مصر)