وصل عون إلى القصر الجمهوري في بعبدا، على وقع تصوير مُختلف القوى لنفسها بأنها المُنتصر الأكبر في هذه التسوية، وبعد أن انتقل عون من قلب التحالف السياسي الذي يجمعه مع "حزب الله" و"حركة أمل" ضمن المحور السوري، إلى أداء دور "أب الجميع" في لبنان. وسبق الانتخاب محطة مسيحية مع المصالحة التاريخية بين عون وجعجع، لطي صفحة الخلاف بين أكبر حزبين مسيحيين في لبنان. لكن أحداث السنة الأولى من العهد الرئاسي الجديد أكدت أن دور "حزب الله" وخلفه دمشق تعزز في لبنان بوصول ميشال عون، إلى الرئاسة بعكس آمال وطموحات "تيار المستقبل" و"القوات اللبنانية". ولا يمكن تجاوز الدور السعودي في دعم التسوية، قبل أن تتراجع المملكة وتتهم سعد الحريري بالتخاذل عن مواجهة تمدد نفوذ "حزب الله" في لبنان.
تعويم النظام السوري
طُرحت مسألة زيارة سورية ولقاء رئيس النظام بشار الأسد، منذ يوم انتخاب عون قبل عام. ولم تُغيّر الزيارة الخارجية الأولى له إلى السعودية من واقع أن العهد الجديد - بمُختلف القوى السياسية الحاكمة فيه - سينضم إلى قائمة الدول المُطبّعة مع النظام السوري بعد استتباب الأوضاع العسكرية والميدانية لصالحه. وكان وزير شؤون رئاسة الجمهورية السورية، منصور عزام، أول الزوار العرب إلى قصر بعبدا لتهنئة عون بالرئاسة بعد أسبوع واحد على جلسة انتخابه. تلاه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف
.
وبعد عام صادق العهد الجديد وبتوقيع رئيس الوزراء سعد الحريري على تعيين سفير لبناني جديد في دمشق "تأكيداً على استقلالية لبنان" كما برّر الحريري الخطوة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهو أمر صحيح لولا تورط مُختلف قوى العهد الجديد في خطوات تطبيعية مع نظام الأسد، ومنهم الحريري وفريقه السياسي. ولم يرتبط التنسيق الأمني والسياسي بين النظامين اللبناني والسوري بالتطورات المُشتركة بين البلدين في ملفات اللجوء أو الملف الأمني ومحاربة تنظيمي "داعش" و"النصرة" وحسب، وإنما شكّلت الإرادة السياسية اللبنانية بتعويم النظام السوري مدخلاً للتطبيع. نسي الوزراء في حكومة الحريري مبدأ التضامن الوزاري وزاروا دمشق "بصفة رسمية" بعد إعلام رئيس الحكومة عبر وسائل الإعلام بهذه الزيارات خلافاً لنظام العمل في المجلس الذي يقضي بنيل موافقة مُسبقة من الحكومة قبل مباشرة الزيارات الخارجية. بحث وزراء "حركة أمل" و"حزب الله" ملفات سياسية وتقنية مع نظرائهم السوريين في دمشق، وطلب وزير الخارجية، صهر عون، رئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل، موعداً من وزير خارجية الأسد، وليد المعلم، في نيويورك. ظهر الحريري بعد اللقاء في موقف العاجز، واكتفى بالتعليق أنه رافض لهذا اللقاء الذي تمّ. ثم ظهر الحريري بموقع التناقض بعد أن كشف المدير العام لجهاز الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، أنه تلقى تعليمات من الحريري "باتخاذ ما يلزم من إجراءات لتسهيل عملية التبادل التي نفذها حزب الله مع جبهة النصرة"، وهي العملية التي تجاوزت سيادة الدولة اللبنانية وحولتها إلى مركز خدمات لوجستية لصالح الحزب الذي فاوض وبادل ونقل مدنيين لاجئين من لبنان إلى سورية من دون إشراف أممي أو حقوقي. علماً أن الموقف المُعلن للحريري هو رفض فتح أي علاقة مع النظام السوري. وهو ما تكرر بعد الاتهام "السياسي" الذي وجهه الحريري للنظام السوري باغتيال والده، قبل أن يزور دمشق ويلتقي بشار الأسد عام 2009 وفقا لمقتضيات المرحلة السياسية في حينه. وتشهد السجلات التجارية في لبنان وسورية تسجيلاً مُتسارعاً لشركات مرتبطة بسياسيين لبنانيين مع شركاء سوريين لاقتطاع حصة مالية من رزمة إعادة إعمار سورية والتي يترقبها كل المُستثمرين اللبنانيين-وأغلبهم سياسيون- بصرف النظر عن موقفهم من الأزمة في سورية.
ولا يزال الحريري يُعلن حتى اليوم أنه ضد فتح أي علاقات مع النظام السوري، رغم تعيين السفير وثبوت وجود تنسيق أمني مع النظام السوري برعايته ومن خلفه وزير الوصاية على جهاز الأمن العام، وزير الداخلية نهاد المشنوق، وهو أحد ممثلي "تيار المستقبل" في الحكومة. وإن غاب رئيس الجمهورية ميشال عون عن خطوات التطبيع المباشر، إلا أن مواقفه من "حزب الله" التي أعلنها وقال فيها إن "وجود الحزب العسكري أساسي وضروري طالما بقي الجيش اللبناني ضعيفاً"، شكّلت تشريعاً ضمنياً لقتال الحزب في سورية والعراق واليمن حيث يدعم ويُدرّب عناصر الحوثيين.
"علاقات دولية باردة وعنصرية مُضاعفة"
أثّر موقف "حزب الله" من قضايا المنطقة وتورطه العسكري في دعم النظام السوري والحوثيين سلباً على علاقات لبنان الخارجية، خصوصاً مع الدول العربية. وهو ما استمر في عهد عون، بعكس التوقعات التي قدّرت أن تُشكل إعادة النصاب إلى المؤسسات الدستورية في لبنان وملء الشغور الرئاسي مدخلاً لتحسين العلاقات الخارجية للبنان الذي امتاز طوال عقود بعلاقاته الدبلوماسية القوية التي ساعدته سياسياً واقتصادياً. لكن ذلك لم يحدث، وقدّم الرئيس صورة مهزوزة للبنان في الخارج. ردد عون لازمة "عدم قدرة لبنان على تحمّل الأعباء الناتجة عن وجود النازحين السوريين في لبنان" أمام الجامعة العربية وفي خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المُتحدة. وقابله المُجتمعان العربي والدولي بشكر لبنان على "حسن الضيافة للاجئين".
وعلى أرض الواقع، شهد العام الأول من العهد الجديد ارتفاع حدة الخطاب الطائفي والعنصري ضد اللاجئين، تبعاً لمواقف عون و"التيار الوطني الحر" السابقة في هذا الملف. وانعكس تحميل وزراء العهد الجديد لكافة الإخفاقات الخدماتية السابقة للجوء وللاجئين.
هكذا، اتهم الوزراء المُقربون من عون اللاجئين بزيادة استهلاك التيار الكهربائي وتهديد الأمن الداخلي وضرب الاقتصاد. وانحدرت العنصرية سريعاً من رأس الهرم الإداري والسياسي للدولة إلى الإدارة المحلية المُتمثلة بالبلديات، مع الاعتداءات الجسدية واللفظية المُتلاحقة على اللاجئين، وصولاً إلى فرض العمل بالسُخرة على اللاجئين في بعض البلدات، وتحديد ساعات منع تجول للسوريين في بلدات لبنانية عديدة.
"مغانم مالية ومراكز نفوذ"
لا تُشكل إعادة إعمار سورية الملف الاقتصادي الوحيد الذي شغل بال ورجالات العمل السياسي في لبنان، بل شكلت عناوين اقتصادية أُخرى المدخل الأساسي للتسوية السياسية اللبنانية الأخيرة، بحسب حديث سابق لأحد الوزراء المشاركين في حكومة الحريري لـ"العربي الجديد".
ويُقدم أحد رجال الأعمال اللبنانيين تصوراً للوضع المالي في لبنان بالقول إن "حكومات العهود السابقة كانت تتعامل مع لبنان كبقرة حلوب يتم استثمار حليبها، أما العهد الجديد فيحاول التهام البقرة بدل الاكتفاء بحليبها فقط". انطلق العهد بإقرار المراسيم العالقة والخاصة بملف النفط، ثم بدأت حملة تطوير قطاع الاتصالات. وانتقل التركيز بعدها إلى إقرار سلسلة الرتب والرواتب المُعدلة للقطاع العام، التي أجمعت الآراء الاقتصادية على عدم جدواها، إلا في تعزيز مالية القوى المُشاركة في الحكم وتعزيز حضورها المباشر في الإدارات العامة على حساب المواطنين.
كما شكلت التعيينات القضائية الأخيرة نافذة أخرى لتسليط الضوء على قضاء العهد الجديد على استقلالية القضاء من خلال "تعيين القضاة في مُختلف الدرجات بحسب معيار التقارب السياسي مع القوى وليس بحسب الكفاءة" كما عبّر عدد من القضاة السابقين. وتزامن ذلك مع ارتفاع عدد الاستدعاءات الموجهة لناشطين وصحافيين إلى التحقيق في قوى الأمن الداخلي على خلفية استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. ويأتي قانون الانتخابات الجديد الذي أقرّته القوى الحاكمة في العهد الجديد كاستكمال لحلقة الإمساك بمفاصل الحكم، بعد أن تم تفريغ النسبية المُعتمدة - جزئياً - في القانون من مضمونها وتقسيم الدوائر الانتخابية بشكل طائفي فاضح. وتتزامن السنوية الأولى للعهد الجديد في لبنان مع توالي النعي للتسوية السياسية التي أنتجت هذا العهد، تارة بلسان مسؤولي "حزب القوات اللبنانية" وتارة بلسان وزير الداخلية نُهاد المشنوق. وهو ما يعكس فشل الرهان السياسي لهذين الفريقين اللذين راهنا على عودة عون عن دعم "حزب الله" بعد انتخابه.