في مظاهرات الربيع العربي، استعاد العالم، على نحو دراماتيكي، سقوط الاشتراكيات الأوروبية من دون ألوانها المخملية، وتوقّعت ديمقراطياته، من فرط زخم الحشود في الساحات والشوارع العربية، تساقُط الأنظمة الدكتاتورية دراكاً؛ فالجماهير أخيراً، وبعد عقود من السبات والخوف، صدحت بنشيد الحرية لحسابها الخاص، بلا يسار ولا يمين، ولا أحزاب ولا أيديولوجيات.
لم يشأ الغرب تفويت هذا النصر وأراد أن يكون أحد أسبابه، فتفاءلت الدبلوماسية في المحافل الدولية، لا سيما بالنسبة إلى سورية التي لا بد سيستجيب رئيسها الشاب الذي درس الطب في بريطانيا، بما يعالج الأوضاع المتردّية في بلده، فأمراضها تحتاج إلى طبيب. غير أن الرئيس الشاب تنكّر للطب وللإنسانية وللبشر. لا مزاح في السلطة ولا تهاون في الرد على المتظاهرين، ماذا تكون الحرية سوى دعوة إلى الانفلات؟
شدّد الغرب على مطالبة النظام بالرحيل، أو تغيير سلوكه، وأحياناً بلغ به الحماس التهديدَ بإسقاطه، لكنه لن يحرّك ساكناً إزاء نظام صلب بدا متماسكاً خلافاً عن باقي الأنظمة، يَكذب بطلاقة، ينادي بالحل السياسي، ويعمل على الحل الأمني، بينما دبّاباته تتحرّك نحو المناطق الثائرة.
تلخصت رسائل النظام إلى الغرب بدرس مؤثر وموجز من الكذب الخالص: هذه الانتفاضة إرهابية، بينما كان يقتل ويذبح المدنيّين المحتجين، ويدمّر بيوتهم، ويقطع نسلهم بالبراميل المتفجّرة، دونما تمييز بين طفل بالقماط، أو شيخ على عتبة القبر. إنها حرب إبادة.
أنقذت هذه الحجة الغرب من تعهّداته، واعتبر أن الثورة تحوّلت إلى إرهاب، ما أخلى مسؤوليته عما لم يعد ثورة بريئة، والطبيعي أن تُسفك الدماء ويحل الخراب للقضاء على ما كان يبثّ الرعب في العالم الديمقراطي.
لم يأُخذ الغرب بالحنكة التي أبداها النظام بإطلاق سراح الإرهابيّين من سجونه، بالتواقت مع تنادي "الجهاديّين" من أنحاء العالم لإنقاذ سورية من "الكفّار"، إلا بعد إشارات تفهم مضمونها، فبادلوه بتصرف مماثل. كانت فرصة سانحة للتخلُّص من مثيري القلاقل، ففتحوا حدودهم لخروجهم من بلدانهم. لم تعد سورية سوى ساحة للقضاء عليهم.
قدّمت الدكتاتورية السورية خدمة لأمن العالم الحر ورفاهيته، كانت على حساب مأساة السوريين، أسهم النظام بصناعتها واستثمرها بوحشية، ولم تكن بلا مقابل، فالعالم الذي شارك في الحرب السورية، شارك في تنظيف النظام من جرائمه، ولا غرابة في أن يعمل على تأهيل الدكتاتور لمتابعة مهامه الرئاسية الوراثية. وإذا كان الصمت يسيء إلى سمعة الديمقراطيات، فلا بأس من الجعجعة التي لن تثمر طحناً.
الدرس المفيد الأخير، ارتداد الغرب عن تعهّداته بشأن اللاجئين، فالعنصرية جعلت منهم مادة للخلاف، خاصة في ادعاء الزعماء الشعبويين بأن الديمقراطيات وصلت إلى طريق مسدود، ما دامت القوانين تقيّدها، في حين تشيع الدكتاتورية طقوساً حيوية: أعلاماً وهتافات وشعارات ومظاهرات.... ما يستدعي خراطيم المياه وقنابل الغازات المسيلة للدموع، ومع الوقت الرصاص، وقنابل حقيقية مسيلة للدماء، ومع المزيد من الوقت، وضع حد لها باستعمال القبضة الحديدية، والاستيلاء على السلطة، وقيام الدكتاتوريات الديمقراطية.
هذا السيناريو الانقلابي ليس بخيال محض، فإذا كان دور الدكتاتوريات قد حل في إعطاء الدروس العملية، لا النظرية، للثرثار الديمقراطي، فعلى الديمقراطيات، بالمقابل، التحلّي بدور التلميذ النجيب، وأن تصغي جيداً لإملاءاته لا لدروسه، لئلا تفوتها مرحلة قشيبة من الحداثة الرثة، فالألفية الثالثة استُهلت في بداية القرن، عنوانها الإرهاب، ما يحض العالم على تصنيع دكتاتوريات قادرة على سحقه. هكذا يبدأ عالم جديد.