عالم الكوميديا الخطر... ضحك تحت التهديد

21 مارس 2019
يضحك أطفال ليبيريا على تمثيلهم بجثث أعدائهم (نتفليكس)
+ الخط -
كُلّنا نضحك! مهما كانت الظروف والسياقات، ومهما اختلف تكويننا النفسي، سواء كان قويماً أو منحرفاً، فكُلّنا نضحك. ولا بدّ أن يكون هناك شكل رمزي أو مادي للتكوينات من حولنا تدفع الواحد إلى الابتسام أو القهقهة، سواء كان طالباً أو صحافياً أو قاتلاً أو سفاحاً أو ديكتاتوراً. الأهم، أن الكوميديا -حتى تلك شديدة الابتذال- ليست فقط تسليّةً أو تهريجاً، هي نقديّة في جوهرها، إذ تكشف مفارقة بين مُختلفين، لتكون النكتة، أو الابتسامة، علامة بشريّة على الوعي بعيب أو خلل في العالم. 

هذه المقاربة الثقافيّة للكوميديا نراها في السلسلة الجديدة التي أطلقها نيتفليكس بعنوان "عالم الكوميديا الخطر" Dangerous World of Comedy التي يؤلفها ويخرجها الأميركي لاري تشارلز، المعروف بأنه أخرج أفلام "بورات" و"بونو" التي لعب فيها البريطانيّ ساشا بارون كوهين دور البطولة، وخلقت جدلاً كبيراً بسبب الكوميديا الاستفزازية فيها، والمواقف المشينة التي هددت في الكثير من الأحيان حياة كل من تشارلز وكوهين.

بُث من السلسلة حتى الآن أربع حلقات، يحاول تشارلز فيها الإجابة عن سؤال قد يبدو ساذجاً: ما هو شكل الكوميديا في الأماكن الخطرة؟ لكن، قبل الإجابة، لا بد من الإشارة إلى مفهوم الخطر، الذي يرتبط إما بطبيعة الظروف السياسية في البلاد التي يزورها تشارلز، أو الصراعات العسكريّة التي شهدتها، أو الخطر الذي هدّد أو يهدد الكوميديين أنفسهم، كما أن "المخاطر" التي يشير إليها لا تنطبق عليه بشكل دائم، إلا في بعض الحالات التي تعرض فيها للمضايقات من سكان بعض المناطق.

تُقسم الحلقات حسب موضوعاتها، لا المكان الجغرافيّ الذي يزوره تشارلز، وهي مرتبة كالآتي: الناجون، الجنود، العرق والجندر. وفيها يتنقل تشارلز في أنحاء العالم لاكتشاف "الظاهرة الكوميديّة"، والأسلوب الذي تبنى فيه النكتة، ومن هم أولئك الذين يقومون بإلقاء النكات، وما هي علاقتهم مع المحيط السياسي والاجتماعي، إلى جانب التعرف إلى موقف الجمهور من هؤلاء الكوميديين، وما هي طبيعة التهديد القائم؛ هل قانونيّ أم اجتماعيّ أم ماديّ ملموس؟
ليس من السهل الحديث عن كل حلقة على حدة، لكن في كل واحدة منها نكتشف العطب الذي تنشأ على أثره الكوميديا، فهناك مفارقة في النظام القائم تُقهر إثرها فئة على حساب أخرى، لتظهر المأساة والعنف أشبه بنكتة، كونهما يعكسان حقيقة لا يمكن تصديقها، وكأن الكوميديين عالقون في لعبة مُصممة لخسارتهم، لكنهم الوحيدون القادرون على الصراخ بوجهها بالرغم من الخطر المحيط بهذا الفعل.

يلتقي تشارلز مع الكوميدي والساتيري العراقي أحمد البشر، الذي يحدثنا عما شهده في العراق من تهديدات منذ طفولته حتى عمله الإعلاميّ كناقد وساخر مما يحصل في المنطقة العربيّة. ننتقل بعدها إلى ليبيريا، للقاء "الجنرال عاري المؤخرة"، الذي اشتهر بسبب صوره العارية أثناء استعداده الطقوسي للقتال، ويقال إنه قتل أكثر من 20 ألف شخص، من ضمنهم أطفال كان يلتهمهم. وحين يلتقيه تشارلز يسأله عما يضحكه، فيجيبه عاري المؤخرة أنه يضحك الآن حين يشاهد مقالب الأطفال ونكاتهم، لنرى أنفسنا عاجزين عن الكلام أمامه، ذاك الذي كان يقطع رؤوس الأطفال ويضعها على الحواجز في الطرقات، يضحك في ذات الوقت من طيشهم.
هؤلاء الذين شهدوا الموت أو أنزلوه بغيرهم، استمرو بالحياة وبالضحك. قد تكون هذه الكلمات شعريّة وجوفاء، لكن عند مشاهدة سلسلة الحلقات نكتشف خفايا الوضعية البشريّة، وحضور الكوميديا بوصفها جزءاً لا يموت من تكويننا البشريّ، الذي مهما تعرض للتشويه، نرى السعي في سبيلها مستمرّاً، والكثيرون يرون فيها هدفاً وغايةً ذاتيّة.

ففي الحلقة المعنونة بـ"الجنود"، نتعرف إلى بوبي هينلاين، الجنديّ الأميركيّ الذي احترق وجهه بأكمله حين كان في العراق عام 2007 وأصبح الآن مؤدياً كوميديّاً. هنا تبرز الكوميديا بوصفها علاجيّة نوعاً ما. هي التعبير الغروتيسك عن المأساة التي تحولت إلى حكاية مضحكة، إذ تكشف المفارقة بين العالم الآمن ومساحة الحرب، ليظهر الجنود ونكاتهم كدليل على لاإنسانيّة الحرب وأثرها النفسي والجسديّ الذي يعطب التكوين البشري، والمثير للاهتمام أن هؤلاء "الكوميديين/الجنود"، ليسوا ضد الحرب، ولا ينتقدونها، بل هي واجب وطنيّ، وبسببه لا بدّ من دفع ثمن باهظ من أجل "أمن المواطنين".

يلتقي تشارلز أيضاً بـ روس بيلدين، الأميركي الذي انضم إلى وحدات الحماية الشعبية الكردية ليقاتل داعش، ويرى أن عمل الجنود ليس صعباً، والصعوبات التي يشهدونها مبالغ بها، ويقول أيضاً إنه ارتكب جريمة حرب، كونه "تبوّل على رأس أحد القتلى"، ليظهر العنف والكوميديا أشبه بمغامرة تحمل سخرية عميقة من الحرب نفسها، بوصفها لعبة خطرة، يمكن لأي أحد أن يشارك بها باسم "مكافحة الإرهاب".

تحضر في ذات الحلقة فئة أخرى من الجنود، إذ نرى كيف زار تشارلز واحدا من مقاتلي داعش سابقاً مأسورا في كردستان العراق، يظهر أمامنا متردداً ولا يجيب بوضوح عندما يسأله تشارلز عما يضحكه، سوى حديثه عن بعض "الظرفاء" ممن يعرفهم. إلا أن المشهد الأكثر تأثيراً هو الذي نرى فيه "الأطفال الجنود" في ليبيريا، الذين يؤدون في الشارع بصورة كاريكاتورية ومضحكة كيف كانوا يقتلون ويمثلون بجثث أعدائهم في الشوارع.

وهنا أيضاً نعجز عن التعليق على الأداء الذي يقومون به، إذ تتطابق حركات أحدهم شبه البهلوانيّة مع تلك التي كان يقوم بها لتفادي الرصاص ثم قتل وشجّ رؤوس ضحاياه، لتبدو الكوميديا والضحك كإعادة تمثيل للعنف الذي شهدته البلاد إثر الحرب الأهلية. هذا العنف الذي لا فكاك منه، وكأنهم في تكرارهم للقتل بصورة كوميديّة، يفضحون العطب العميق الذي يعيشونه، إذ تحولت الشوارع التي كانت ساحات للقتال إلى خشبات تسكنها أطياف الحرب التي، وإن انتهت، تركت وراءها ما يشبه الأموات-الأحياء، يعيشون اللحظات التي طحنتهم فيها الحرب كل يوم، كونها الحدث الوحيد الذي يكوّن ذاكرتهم.

يتابع تشارلز رحلاته للبحث عن الكوميديا في الولايات المتحدة لنتعرف على الكوميديين السود الذين يسخرون من التمييز العنصري الذين يتعرضون له، ويفضحون مساوئ النظام الاجتماعي والسياسي. وعلى النقيض، نستمع إلى المتعصبين البيض، الكارهين للمثليين والسود واليهود، لنرى أنفسنا إلى جانب تشارلز نضحك من سخافة نظريات المؤامرة التي يدافعون بها عن آرائهم، لننتقل بعدها إلى معاناة سكان أميركا الأصليين، والحرمان الذي يتعرضون له، كونهم شبه مختفين من الثقافة الشعبيّة، في ذات الوقت تُكرس العنصرية ضدهم في سياقات التسليّة والترفيه والرياضة. 

تتناول الحلقة الرابعة الفئة الأكثر تعرضاً للعنف في العالم حسب تعبير تشارلز، وهي "النساء"، إذ يذهب إلى المملكة العربيّة السعوديّة، ويلتقي هناك المؤديات الكوميديات، وكيفية سخريتهن من قيود المجتمع وتجاوزهن لها، لكن ما يلفت الانتباه في زيارته هو لقاؤه مع الكوميدية السعوديّة المنقبة آمي روكو، والتي تسخر من النقاب لا للتخلص منه، بل لترسيخ وجوده و"كسر الصورة النمطيّة" المرتبطة به، فهو جزء منها حسب تعبيرها، كما أنها تشعر بـ "حريّة أكثر" وهي ترتديه، لكن بالرغم من الاحترام الشديد لرأيها والدفاع اللامتناهي عن حقها بالتعبير عن نفسها والظهور كما تريد، لا يبدو ما تقدمه إلا شكلاً من أشكال الانصياع التام للوضع القائم، والتأقلم مع الظروف المحيطة بها؛ فصحيح أنها حسب قولها اختارت وضع النقاب بـ "إرادتها" كي تقضي على خجلها، إلا أن الكوميديا تبرز هنا كقناع، لا ندري إن كان يخفي الظاهر ويكشف الباطن، لكنه يولّد أداءً يتداخل فيه النقاب ودلالاته السياسيّة مع الكوميديا واللاجديّة النقدية التي تحتويها. لكن، في النهاية، لا يمكن تجاهل وجود النقاب، كونه محركا لنكات روكو، وخصوصاً حين يكون القانون والسلطة مسؤولين عن ضبط هذا القناع/الغطاء والأداء المرتبط به.
ذات القسوة المشرعنة والعنف الذي يتحول إلى "كوميديا" نراها مع تشارلز بشكل مرعب في نيجيريا، حيث الاغتصاب أمر عادي ومتكرر، ويستخدمه المؤدون الكوميديون كمحرك للعديد من نكاتهم، فالذين التقاهم من مؤدين يعارضونه نظريّاً، لكنه في لحظة الاستعراض، طبيعي ومتداول، ويثير الضحك، وأساس شهرة بعضهم، وهنا تتحول الكوميديا نفسها إلى خطر، عبر لاجديّة تعاملها مع هذه الجريمة، وتحويلها إلى مادة للتسلية والترفيه.
المساهمون