عازفو الأنفاق: المواهب المُهمَلَة بين أرجل العابرين

21 اغسطس 2015
نعبر قربهم ونكمل طريقنا لنخرج للضوء والشمس (دنيس دويل/Getty)
+ الخط -
هنا في أوروبا، كي نتحرك ندخل المدن المخبأة تحت المدن، ندخل الأنفاق التي حولها الإنسان بعقله إلى شبكة مواصلات كاملة مذهلة موزعة تحت الأرض كي تجعل الحياة فوقها أجمل وأكثر أمناً، وكي تبقي على حركة مالكي السيارات فيها سهلة وسريعة.

لكننا ومن غير أن نشعر فإننا في هذه المدن الغريبة عنا نمضي جزءاً كبيراً من حياتنا تحت الأرض راكضين في زحمة هذا الضجيج نحو ما يعيننا على الحياة، لذا حين يباغتنا في هذه الأنفاق لحن قادم من أصابع عازفين موزعين في محطات ممتدة تحت الأرض، يرتسم في داخلنا فضاء وسماء جديدان، ويولد فينا فرح خفي كفرح طفل سمع بعضاً من صوت أمه، كثيراً ما يكون اللحن القادم أخضر عفوياً كغابة صغيرة في أول الربيع.

وقد يكون لحناً بنفسجياً يشعل فينا أزرق الحنين الذي لا يشبع منا، والذي يشدنا من شعر أحلامنا المؤجلة، عندها نتمنى لو كنا نملك وقتا أكثر وغربة أقل، أو لو نملك مالاً أكثر وهموماً أقل كي ندفع لهذه الأصابع بعضاً مما تستحق.

العاصمة الإسبانية مدريد، هذه المدينة العريقة، تفخر بأكبر وأعقد شبكة مترو بالعالم. وهو سادس أطول نظام مترو في العالم بعد لندن ونيويورك وموسكو والعاصمة الكورية الجنوبية سيول والعاصمة الاقتصادية الصينية شانغهاي. فمترو مدريد يخدم نحو أربعة ملايين ساكن ويمتد على مسافة 283 كيلومتراً.

اقرأ أيضاً: عن أشباح لندن.. وصراخ الأموات في محطّات الأنفاق

لكن إضافة إلى هذه المزايا في مترو مدير، والتي تجعل منه ثاني أسرع نظام في أوروبا بعد لندن، فإن العاصمة الإسبانية تحتفي بما هو أجمل وأعقد من شبكة المواصلات الممتدة تحت الأرض، إنه إرث من الموسيقى المتنوعة بطريقة لا مثيل لها في مكان آخر، هنا تحيا موسيقى الفلامنكو التي ترقص الأرض بإيقاعها والتي تحمل صوت الراحلين والمشردين وتحمل أيضا تحديهم وقوة الحياة التي تعيش فيهم.

وهنا أيضا تعيش الموسيقى القادمة مع الكثير من شعوب أميركا اللاتينية الذين يسكنون مدريد، والتي حملت معها من روح الهنود الحمر روحاً مميزة تعزفها أرواحهم على آلات نفخية خاصة بهم. آلات ردد فيها الهندي الأحمر ماضيه وكل ما قالته له الجبال وما أخبرته به الرياح حين مرت بالقصب. ولا تغيب عن مسمعنا الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية فمقطوعات باخ وشوبان وبتهوفن، يتردد صداها أينما ذهبنا، كل ذلك نجده في أجمل وأرقى ظاهرة، ظاهرة عازفي الأنفاق التي تجعلنا نعرف أننا حين ندخل هذه الأنفاق سنفتتح نهارنا بعالم كامل من الموسيقى.

قد يكون أكثر ما يباغتنا هنا أن نصطدم فجأة بصوت عود قادم من آخر النفق الطويل، عود يجعل قلوبنا تفر من صدورنا، وتركض أمامنا، ولا نملك إلا أن نتعثر بها حتى نصل مصدر الصوت، لنجد ملامحنا على وجه عربي يعيد لنا مع كل نقرة على وتر في عوده ذاكرتنا كلها والتي نحاول الهروب منها، يعيدها لنا دفعة واحدة. لكن أيضاً الحنين إلى الوطن، وإلى الموسيقى العربية، لا تجعلنا، نحن المهاجرين أو اللاجئين، نتوقف لنعرف قصة هذا العازف أو ذاك، فللحياة في الغرب نسق سريع، وأنت دائماً في سباق مع الوقت، بحاجة إلى كسبه.

اقرأ أيضاً: عازفو الأنفاق

نعبر قربهم، ويتغير فينا صوت صمتنا "فالعازفون يكتبون موسيقاهم على صمتنا ووحدتنا"، كما قال ليو بولدستوكوفسكي. نعبر قربهم ولا نفكر كم هم موهوبون حقاً وكم كانوا يستحقون قمماً لا أنفاقاً ولا نفكر فيما إذا كانوا يتخيلون أنفسهم يعزفون على أشهر مسارح العالم لذا يشردون حتى عن وجودنا ويدخلون حلمهم جميلين. يقدمون أجمل ما لديهم في محاولة لتأمين لقمة عيش، حتى وإن لم يلقوا الاهتمام اللازم من الجماهير المستعجلة للحاق بمحطاتها.

هي موسيقاهم التي يعيشون فيها وبها، فقبعاتهم المرمية أماهم على أرض النفق، والتي تنتظر من العابرين المسرعين القليل، القليل من النقود، هي كنزهم الوحيد وبأصابعهم يحفرون أرض أرواحهم كي يعثروا عليه.

نعبر قربهم، ونكمل طريقنا لنخرج من الأنفاق إلى الضوء والشمس، لنتركهم هناك يكملون حصتهم من الحياة ويعطون حياتنا في الشتاء دفئاً مخملياً، وفي الصيف يلبسوننا موسيقى من حرير.

اقرأ أيضاً: مترو إسطنبول: محطة الحبّ والغرام
المساهمون