طهران والاختيار بين النووي والأسد
يبدو أن لعبة الشطرنج التي تجري، منذ سنة، بين الولايات المتحدة وإيران، على رقعة الشرق الأوسط، راحت تزداد تعقيداً مع قرب انتهاء الوقت المحدد للمفاوضات حول الملف النووي الإيراني في 24 نوفمبر/تشرين أول المقبل، جراء مجموعة عناصر استجدت، في مقدمها الظهور "المفاجئ" لتنظيم داعش الذي تمدد من سورية، ليجتاح شمال العراق، ويتحول إلى "بعبع" للمنطقة بأكملها، ويضع أيضاً الطرفين، أي واشنطن وطهران، في مواجهته، أقله في المعلن.
ومن الواضح أن المفاوضات لم تعد تدور حول النووي فقط، أو بالأحرى، يتم التفاوض عمليّاً حول كل شيء، من العراق إلى سورية ولبنان، ومن الثورات إلى الأنظمة وثوراتها المضادة، ومن المصالح والنفوذ في هذه الدول، ودور الدول المحيطة والمؤثرة، إلى "داعش" بيت القصيد، وخالط كل الأوراق والحسابات.
انطلقت المفاوضات في 24 نوفمبر/تشرين ثاني 2013، من إطار عام، يقضي أن توافق إيران على التزامات طويلة المدى، تتعلق بتقليص برنامجها النووي، في مقابل رفع متدرج للعقوبات المفروضة عليها. بمعنى آخر، تلتزم إيران تعاقديّاً التزاماً طويل المدى، في مقابل أن يستخدم الرئيس الأميركي، باراك أوباما، صلاحياته الرئاسية لتقليص العقوبات الاقتصادية الحادة المفروضة على إيران، وأن يستأذن الكونغرس في إلغاء قانون العقوبات على إيران، بحلول نهاية عام 2016.
ولهذا الغرض، باشرت إيران، بعد انتخاباتها الرئاسية، العام الماضي، التفاوضَ حول ملفها النووي مجدداً، وأفلحت في إبرام "اتفاق إطار" مع مجموعة (5 + 1)، أي الولايات المتحدة، فرنسا، انكلترا، روسيا والصين + ألمانيا، مدته ستة أشهر، إلا أنه بسبب الفجوة الكبيرة التي استمرت تفصل مواقف الأطراف، ورغبة الجميع في استمرار التفاوض، فقد تم تمديد المهلة ستة أشهر إضافية، إفساحاً في المجال للتوصل إلى اتفاق نهائي. وستنتهي هذه المهلة الإضافية، بعد نحو عشرة أيام، ولا يزال الاتفاق بعيد المنال.
إن النووي قبل "داعش" ليس كما بعده! فواشنطن وطهران تقفان عمليّاً، اليوم، في خندق واحد، في مواجهة هذا الوحش، كل من موقعه وحساباته المختلفة. فقد عمل نظام الملالي، في البداية، على تغذية ظاهرة "داعش" التي أطلقها حليفهم وربيبهم، بشار الأسد، في سورية، ثم مهد الطريق لـ"داعش"، لكي يغزو العراق عبر ربيبه الآخر، نوري المالكي، من أجل أن تتحول الثورة إلى إرهاب واقتتال سني-سني. في الوقت عينه، سعت الإدارة الأميركية إلى استغلال الظاهرة الآخذة في التمدد، وتوظيفها في أكثر من اتجاه، بهدف ابتزاز الخصوم والحلفاء على السواء. حاولت التعويض عن تخاذلها وإطلاق الوعود الكاذبة تجاه (إسقاط) النظام السوري، وكذلك تجاه دعم المعارضة السلمية، ثم المقاتلة، على الأرض.
فكان أن "انقلب السحر على الساحر"، وتحول "داعش" إلى وحش دموي كاسر، يتهدد الجميع، وفرض نفسه بقوة على طاولة المفاوضات النووية. فقرر أوباما التدخل عسكريّاً، عبر الغارات الجوية التي تشنها قوى التحالف، منذ أكثر من شهرين على "داعش" في العراق وسورية على السواء. رفضت إيران المشاركة، على الرغم من صراخها وإعلانها، هي وحلفاؤها بشار في سورية و"حزب الله" في لبنان، والمليشيات الشيعية في العراق، الحرب على الإرهابيين والتكفيريين. كيف لها أن تشارك في المعركة إلى جانب من تصوره لجماهير "المستضعفين" على أنه "الشيطان الأكبر"، ومنبع "الاستكبار العالمي"؟ وأين لها أن تجد بعدها الخصم الذي يعبئ به علي خامنئي ملايين الإيرانيين، أو حسن نصرالله، حشود الممانعين الشيعة في لبنان... علماً أن الأسد عرض خدماته على "الشيطان الأكبر" أوباما من أجل التعاون والتنسيق في مقاتلة "الإرهابيين"، على الرغم من عدم تصديه، ولو بغارة واحدة، على "داعش".
في المقابل، يعكف مستشارو البيت الأبيض، في الأيام الأخيرة، على وضع استراتيجية جديدة، بعدما تبين للرئيس الأميركي أن لا جدوى من الغارات الجوية فوق الرمال المتحركة، وأن القضاء على "داعش" يفترض التحرك، أيضاً، باتجاه إسقاط نظام الأسد. وهذا يعني إعادة خلط الأوراق مجدداً باتجاه مزيد من التعقيد والتوتر، وربما التفجير في أكثر من ساحة، إلا أن اللافت في هذا المجال هو دخول روسيا على الخط، عبر تسريب ديبلوماسيتها معلومات عن استعدادها التخلي عن الأسد في مقابل تشكيل حكومة انتقالية، تضم المعارضة المعتدلة، وبعض القريبين من النظام، شرط الحفاظ على مؤسسات الدولة والجيش. فهل هذا يعني أن موسكو باتت مقتنعة أن استمرار الرهان على بشار أصبح رهاناً فاشلاً، وأنه مازال يقف على قدميه فقط بفعل الدعم العسكري الإيراني والمليشيات اللبنانية والعراقية التابعة لطهران؟ وبالتالي، من الأفضل ملاقاة واشنطن في منتصف الطريق للحفاظ على موطئ قدم على شرق المتوسط.
هذه التطورات المتسارعة وضعت نظام الملالي، المتمرس في التفاوض، والمعروف بنفسه الطويل في "حياكة السجاد"، أمام اختبار لا يحسد عليه. واشنطن تمارس ضغوطها عبر الملف النووي، وموسكو تترك فجأة طهران الحليفة في منتصف الطريق. والخيار هو بين الملف النووي وبقاء بشار الأسد في السلطة، أي بين ضرورة رفع العقوبات الاقتصادية الخانقة عن نظامها وشعبها أيضاً، والحفاظ على نفوذها ومطامعها التوسعية على ضفاف المتوسط بعد أن امتدت أذرعها إلى معظم الدول العربية!
قد يتم ربما في اللحظة الأخيرة إيجاد حل مؤقت للنووي، عبر التمديد للمفاوضات، لكي تبقى العصا مرفوعة في وجه طهران، ولكن، كيف يمكن لها أن توفق بين القضاء على "داعش" وبقاء الأسد.