طلعت ريحتنا

25 اغسطس 2015
+ الخط -

ربّما كان أفضل ما فعله الجيش اللبناني، وقوى الأمن ورئيس الوزراء ووزير الداخلية ورئيس مجلس النواب ومن لف لفيفهم، أنهم أعطوا الأوامر بقمع التظاهرة السلمية التي نظمتها حملة "طلعت ريحتكم" مساء السبت 22 أغسطس/آب الجاري، للمطالبة بحل فوري لأزمة النفايات التي تجتاح لبنان منذ ما يعدو الشهر، وذلك باعتماد التصعيد والترهيب من خلال إطلاق الرصاص الحي فوق رؤوس آلاف من المدنيين العزل، واستخدام الرصاص المطاطي على أجسادهم مباشرة، إضافة إلى خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع.

فعلى ردهّم العنفيّ القمعيّ التصعيدي، جاء الردّ رديْن، رد أول يوم السبت 22، وجاء فيه: هذه "لغة" لا نفهمها، ولم نفهمها أبداً، لغة لن نتكلمها مهما استبدّت وطغت. وإن أخذ علينا أننا "نلهج" بمفردات السذاجة والمراوغة والاحتيال والارتهان والتبعية والطائفية، فإن قمع السلطة الحاكمة لغة لن نفهمها. نحن لا نفهم لغة دولة بلطجية بلغت مستويات هائلة من الفساد والانحطاط والإفلاس السياسي والأخلاقي. وهي، فوق ذلك كله، تمتص دماءنا وتفسد هواءنا ودماءنا وطعامنا. قد نفهم قمع جيش احتلال، مليشيات، زعران وقبضايات وشبيحة، لكن لغة الدولة، كما خرجت إلينا مرفوضة. وبالتحديد، حين تكون دولة شبحاً كهذه، ودولة فاسدة كهذه، ودولة متهاوية كهذه، يتنازع على بقاياها غربان الشؤم والفساد.

وردّ ثان يوم الأحد 23، وكان بما بمعناه: لا بد أن يترافق مع الكلام الكبير المتفلّت من عقاله والقائل بـ: إسقاط النظام، تغيير الطبقة الحاكمة، محاكمة المسؤولين، حل المجلس النيابي، القيام بثورة... مع حراك متفلّت من عقاله أيضاً، يختلط فيه الحابل بالنابل، ويظهّر صورة المجتمع اللبناني، لا بالأبيض والأسود، وإنما بالألوان، حيث تفتضح الانقسامات والتضاد ومكامن الضعف، وحيث يسهل إفشال كل المبادرات، ليصح القول القائل ألا مجتمعاً مدنياً في لبنان، لا بل حتى لا مجتمعاً بالمرة، وإنما طوائف وزمر وعصابات.

وفي الحالتين، الحلم مسموح، والغضب شرعي، ورفع الصوت ضروري. لكن، حبذا لو أننا نكتفي بمطالب معيشية صرفة، تلك التي تضرب منطق السياسة اللبنانية، المضروب أصلاً، تمنح الحراك الشعبي فرصة للتشكّل، وتعيد إلينا حداً أدنى من الكرامة، ومن هناءة العيش.  فبالاكتفاء بتلك المطالب، وبشغل وظيفة "الشعب"، وبأداء مهمة  "المجتمع المدني"، نكون قد تركنا طوائفنا إلى حين، وتخلينا لوقت عن أحزابنا وانقساماتنا، لنمارس السياسة من الموقع الصحّ: تخليصنا من النفايات، حل أزمة الكهرباء والمياه، إلخ. وربما كان في هذا أول الغيث، وأول ما يلزم لتشكيل مجتمع مدني بحق، وحراك أهلي بحق. لا بل إن في هذه المطالب ما هو أكثر وأهم: قطع حبل السرّة، والانسلاخ أخيراً عن طبقة زعمائنا الذين لا يدومون إلا بدوام ارتباطنا بهم وتبعيتنا لهم.

لقد بتنا، نحن اللبنانيين، ما وراء الأمل بأي انفراج. نحن في اليأس والتحلّل والسموم والأكسدة والروائح النتنة التي تسدّ مسام العقل والروح. نحن تحت خط الذل بكثير، تحت خط البؤس الروحي والأخلاقي بكثير، تحت خط النفايات بكثير. النفايات فوق رؤوسنا، وليست على مقربة ولا في الجوار، إنها في عيوننا وأنوفنا وقلوبنا، فيما نحن نشهد مسرحية محاصصةٍ، يؤديها سياسيون بلغوا أقصى الوقاحة والخساسة، وقد انبروا ليشاركوا من نزلوا إلى الشارع، اعتراضهم على الفساد!

تحرّكٌ بدأ متواضعاً، وتظاهرة بدأت سلمية، ومشاركة آلاف بدأت عفوية، وهي، إن استمرّت،  ستنتهي، على الأرجح، شيئاً آخر. هذا ما لا نتمناه. لا نريدها ثورة لإسقاط النظام. نريدها ثورة للتغيير، ولخلق مجتمع لبناني موحّد وحقيقي، لا تضيع على أبنائه، ولو مرة، فرصة رفع أصواتهم كمواطنين. دعوة نوجهها إلى المنظمين والمعتصمين والمتظاهرين الواقفين حتماً بين نارين، نار سلطة فاسدة ووقحة، بلغت أدنى الدركات، وستتصرف بمزيد من المكر والشراسة، حماية لمصالحها، ونار انفلات الغرائز الطائفية والتبعيات والانقسامات، والانسياق وراء أوهام كبيرة، أثبتت خطورتها وفشلها في كل ما شهدناه منذ انطلاق شرارة ثورات الربيع العربي.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"