طفلنا الغريق

08 سبتمبر 2015
+ الخط -

لجسده المرميّ على الشاطئ، الطراوة والرخاوة اللتان لأجساد أطفالنا، حين يهدّهم تعب القفز واللعب والصراخ، فيسقطون في بئر النوم منهكين، قبل أن نتمكّن من خلع ملابسهم وغسلهم، استعداداً لدخول السرير. قميصه الأحمر، سرواله الكحلي القصير، وقفا نعليه الجديدتيْن اللتيْن ارتداهما للمناسبة، تقول إن عيْلان، ابن الثلاث سنوات، كان قد تأنّق واستعد، وقد وعدوه بمشوار جميل، أو بمغامرة تحمله إلى العيد. لكن المشوار طال، والعيد تأخر، فغفا الصبي متعباً على الشاطئ، فوق فراش من صمت ووحدة وعراء.

أن لا نراه سوى من الخلف، أن لا نتبيّن من ملامح وجهه إلا اليسير، يجعله طفلاً لكل منّا، ويجعلنا نجلس في حرقة أهلٍ لم يملكوا أذرعاً كافية لتبلغه، لتقلبه على مهل كي لا يفيق، تمسح الرمل عن هدبيه وشفتيه، تخلع ملابسه المبلّلة، تلفّه بحرام دافئ، ثم تضمه إلى قلوبنا، وهي تهدهد إغفاءته، وتُربّت ظهره بحنان.

كم مرّة سينزلق الطفل وأخوه من يد أبيهما، فيبتلعهما البحر، قبل أن يعيدهما إلى الشاطئ من حيث أتياه. كم مرة سينقلب المركب، فيرى عبدالله زوجته تغرق، والمستقبل المشرق الذي ظنه على قاب قوسين، يُعتم، قبل أن ينأى ويغيب. كلما أغلق عبدالله الكردي عينيه، سيحاول رفع طفليه، غالب وعيْلان، فوق الماء ليتنفسا. آلاف المرات سيلعن ذراعيه اللتيْن خذلتاه، فأفلتتا الصبيين وسلمتهما للماء. سيرى الذعر في عيني زوجته ريحانة، وهي تستميت في مقاومة البحر ومصارعة الأمواج، فيما هي ترى اليمّ يختطف ولديها الصغيرين.

لن يكون لعبدالله بعد اليوم شاغلٌ، ولا همّ، سوى استعادة هذا المشهد في رأسه، بأدنى تفاصيله، وتأديته من ثم آلاف المرات. سيُخلي عبدالله ذاكرته تماماً، فلا يكون فيها ما يعكّر صفو مشهده ذاك أو يشوّش نقاءه. سيمحو تفاصيل حياته كلّها، ويحوّلها إلى شاشة بيضاء، يعرض عليها مشهد ابنيه وزوجته في لحظاتهم الأخيرة، وسيدرك سريعاً أنهم قد استراحوا، فيما بقي هو غريقاً على قيد الحياة، غريقاً لمدى الحياة.

لا هدف لعبدالله بعد ما جرى، سوى التفرّج على عرض متواصل، يوقّعه الندم والفقد، وتبكيت الضمير. لو أني لم أخرج بهم إلى البحر. لو أن أختي لم ترسل لي المال لكي أدفع ثمن رحلتي مع عائلتي إلى ألمانيا، لو أني بقيت في تركيا، بل لو أني حتى لم أغادر كوباني، على الرغم من كل شيء. لو أن ثورة سورية نجحت، لو أن المجرم استسلم وتنحّى، كما فعل من قبله زميلاه المصري والتونسي. لو أن العالم يستفيق أخيراً، فيقضي على الطاغية، ويوقفه عن تهجيرنا وضربنا مزيداً بالبراميل... لو أني بقيت ممسكا بعيْلان وغالب، لو أن ريحانة وصلت إلينا، فأنقذت أحدهما، واهتممت أنا بالآخر. لو أنه كابوس، فأستفيق منه، وأجدني أتنزه في طرقات كوباني مع طفليّ، وأنا مطبق كالكمّاشة بيديّ على أيديهما. لو...

بعد صور أطفال الغوطة النيام، وصورة عيْلان الغريق، يشعر الواحد منا أن أطفال سورية كلهم خرجوا إلى الصور، غرقى ونياماً، أو مضرجين بالدماء وتحت الركام. فيهم كل شجن سورية وقهرها وشقائها، وفي عيونهم ما يجعلنا جميعنا وحوشا، كيف أننا نرى هذا كله، ونبقى بعدها بشراً أسوياء.

يودّ الواحد لو يقتلع عينيه، لينتزع منهما تلك الصور، لو يحفر دماغه بأظافره، كي يمحو أثرها، لو يغادر هذا الكوكب إلى دنيا أخرى، هناك حيث عدم وسكون وخواء، غير أن صور الحروب والقتل والدماء والتهجير أمر، ومشهد ذلك الصبي المرتمي على وجهه أمر آخر، يفوق القدرة على الاحتمال.

نم، يا طفلي الجميل، أيها الملاك الغريق، نم وأغلق عينيك، وأعط ظهرَك لهذا العالم البائس، فليس فيه ما يستحق براءتك، أو يستأهل بقاءك على قيد الحياة.

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"