طارق يمني.. طرب في هارلم

04 نوفمبر 2018
(طارق يمني، تصوير: ماريا بارانوفا)
+ الخط -

في مقهى صغير في حي هارلم الشهير تاريخياً بنوادي وموسيقى الجاز، في مدينة نيويورك، كان موعدي مع طارق يمني (1980)، الذي يعيش في الحي منذ عام 2011. "الذهاب إلى نيويورك أو العيش فيها بالنسبة إلى أي موسيقي جاز، هو كأداء فريضة الحج للمؤمن"، هكذا يصف الموسيقي وعازف البيانو اللبناني معنى المدينة بالنسبة إليه حين سألتُه عن سبب استقراره فيها، مضيفاً: "رحلة العيش في نيويورك لم تكن دائمة سهلة بسبب غلاء المدينة والمنافسة الشديدة. لكن مفاجآتها لا تُعدّ".

باكورته الموسيقية كانت مع ألبومه "آشور" عام 2012، والذي أخذ فيه موسيقى عربية تقليدية ليُعيد صياغتها في إطار موسيقى الجاز "الأفرو- أميركية" والتي يُسميها "أفرو- طرب"، وتتّضح بصمة هذا النوع من الموسيقى في ألبومه الثاني "لسان الطرب: مفاهيم الجاز بالعربية الفصحى". أمّا ألبومه الثالث "بننسلر"، والذي كان بتكليف من "مهرجان أبوظبي" وحل فيه المغنّي اليمني عادل عبد الله ضيفاً في إحدى الأغاني، فكان بمثابة رحلة بحث في الموسيقى العربية، حيث مزج فيه بين الإيقاعات الخليجية والجاز، وهو يرى أن هذا المزج ممكن، خاصة بسبب وجود الإيقاع الأفريقي في الموسيقى الخليجية.

قادته تجربته الأخيرة بالتعاون مع الموسيقي روني عفيف إلى كتابه الثاني "إيقاعات شبه الجزيرة العربية"، والذي تناول فيه الجذور الأفريقية في الموسيقى الخليجية، في السعودية واليمن وقطر والبحرين والإمارات والكويت وعُمان؛ إذ يرى أن لها الكثير من الجذور في القارة السمراء التي يعتبر أنها الأكثر حضوراً في الموسيقى الخليجية من الموسيقى الشرقية (الشامية والمصرية).

يقول في هذا السياق: "اكتشفت، خلال البحث، أن الإيقاع في أنواع من الموسيقى الخليجية غالباً ما يؤدّيه شخص من أصول أفريقية، وجرى توارث هذه العادات من فترات العبودية. وعلينا ألا ننسى أن العبودية في السعودية حُرّمت عام 1963". يتابع: "ستجدين، مثلاً، تشابهاً بين الإيقاع المستخدَم في جلسات "استخراج الأرواح" في بعض المناطق الخليجية وبين تلك التي في البرازيل، والقاسم المشرك في الإيقاع هو الأصول الأفريقية التي أتى بها المستعبَدون أو غيرهم من الأفارقة إلى كلّ من المنطقتَين".

دوّن يمني في كتابه ستّة وثلاثين إيقاعاً خليجياً، واستقرّ على أسمائها بعد الكثير من البحث والمقارنة، مشيراً إلى أن "الكتاب موجّه بشكل خاص إلى الموسيقيّين المختصّين، والذين يريدون البحث والتعرّف إلى هذا المجال أكثر".

من جهة أخرى، يحاول يمني القيام بتجارب إضافية قد يصعب الاستماع إليها على المسرح، كما يفعل في جلسة التجريب والتسجيل على قناته في يوتيوب، ومن بينها قلب المفتاح الموسيقي، بحيث تُعزَف الأصوات العالية مكان المنخفضة وبالعكس. عن ذلك يقول: "هذا النوع من التجريب يقلب الموازين؛ بحيث تصبح وكأنك في كوكب مواز تعزف فيه بالمقلوب".

تأثّر الموسيقي اللبناني بشغف والده الذي كان يفضّل أنواع الموسيقى التي ابتعدت عن خريطة الشهرة من الروك والبوب والموسيقى الهندية والريغي والموسيقى العربية. ورغم تعلّمه الموسيقى في عمر مبكر، حين كانت الحرب الأهلية اللبنانية تقرع طبولها، إلّا أن ذلك التعليم قدّم له الأسس فقط، وكان عليه أن يستمر في رحلة البحث بشكل مستقلّ حتى استقر وعمره تسعة عشر عاماً على شواطئ موسيقى الجاز.

لا ينكر أن مشواره وإصراره على تعلّم موسيقى الجاز بنفسه وعلى طريقته، بمساعدة كتب مثل "ذا جاز بيانو بوك" والذي حصل عليه عن طريق موسيقي لبناني آخر بالصدفة، أدّيا إلى استغراقه مدّةً أطول للوصول إلى مبتغاه. لكنه، في الوقت ذاته، تعلّم الكثير عن ذاته وعن عوالمه الموسيقية، كما يقول.

لاحقاً، درس يمني في "معهد غرونينغين للموسيقى" في هولندا، وكانت دراسته هناك صدفةً شكّلت أثراً مهمّاً في حياته، دون أن يعني التعليم هناك الالتزام بالقواعد العادية وتخصصه في موسيقى الجاز. وعند العودة إلى بيروت، قرر أن يترشّح لواحدة من أهم جوائز الجاز في العالم والمخصّصة كذلك للتأليف الموسيقي؛ وهي جائزة "معهد ثيلونيوس مونك" في العاصمة الأميركية واشنطن.

يبيّن أن "للجائزة شقّين: شق الآلة وشق التأليف الموسيقي للآلة التي في المسابقة، كنت قبلها قد بدأت التجريب وتأليف الموسيقى والخلط بين المقامات والإيقاعات، حيث كنت مع فرق لعبت دوراً مهمّاً في حياتي؛ من بينها فرقة "شحّاذين يا بلدنا" و"عكس السير"، وكنت أتعلّم مع الفرقة وأعزف ثم أعيد توزيع ما أتعلّمه بتأليف جاز. أما المعزوفة التي فازت في المسابقة فتحمل عنوان "سماعي يمني" وأدّتها المغنية السورية رشا رزق. حين فزت بالجائزة، أدركت أنني على الطريق الصحيح وأن هذا الخليط يمكن أن يصل ويُفهم".

يؤكد يمني أنه لا يمشي على خطى ما يُسمّى "الجاز الشرقي"، موضّحاً: إنه يحاول اتباع نموذج يكون فيه الخلط والمزج أكثر تكافؤاً ويعطي مثالاً على ما يعتبره مزجاً أصيلاً وناجحاً، هو "الأفرو - كوبن جاز".

لعوالم الجاز النيويوركية في تلك النوادي الليلية حيث جلسات الجاز أو "جام سيشن"، عادات وتقاليد لا يمكن تجاوزها حتى إن كان الوافد قد حصل على جوائز مرموقة. يشرح يمني: "شكّلت تلك الجلسات أساساً لتطوّر موسيقى الجاز، يجتمع الموسيقيّون ويتعلّمون ويتأثّرون ببعضهم البعض. لم تتطوّر أي موسيقى في العالم بتلك السرعة، كما حدث مع الجاز في نيويورك التي شكّلت مولد وأساس تلك الحركة".

وعمّا إذا كان المشهد اليوم غنياً كما كان في الماضي، يقول: "لا أحب الحنين إلى الماضي وخلق صورة مثالية لا علاقة لها بالواقع. لا يعرف هؤلاء الذين يحنّون إلى سنوات الأربعينيات كيف كانت حياة الفنان في تلك الأيام.. الآن المشهد رائع ويكبر وهذا مهمّ، رغم أنه قد لا يكون مثالياً.. أحاول أن أرى الجوانب الإيجابية. شخصياً أحاول أن أكون مجدّداً. ما هو مهمّ الآن، في مشهد الجاز، استيراد عدد أكبر من الثقافات لموسيقى الجاز واستيعابها".

يختم يمني بالإشارة إلى أن "بعض الموسيقيّين، وخاصة الأميركيين من أصول أفريقية، لا يحبّذ استخدام كلمة "جاز"؛ إذ يرى البعض أن التسمية أُطلقت من البيض على كل ما لم يتمكّنوا من فرزه. وهناك حركة كاملة تشير إلى ضرورة الحديث عن "BAM" بدل الجاز، وهو اختصار لتسمية موسيقى الأميركان السود".

المساهمون