طائرٌ لا يهدأ

15 سبتمبر 2015
لوحة للفنان الفرنسي بول غوغان
+ الخط -
الطائر حسن

يذهب الطالب حسن إلى المدرسة كل صباح، لا يحمل في حقيبته القماشية غير كرة فارغة من الهواء، يجلس في المقعد الأخير من الغرفة الصفّية الضيقة، في الزاوية، ينتظر بفارغ الصبر جرس التّرويحة.
يتكون الطالب حسن من طبقتين؛ برّانية تتلقى الصفعات والجلدات من المعلمين، وجوّانية تحلم بالمباراة القادمة بعد انتهاء الحصة السادسة.
سبعة أولاد يغادرون المدرسة ظهراً يتقدمهم الكابتن حسن، يعرّجون على مطعم "أبو ماهر" كي يشتروا الساندويتشات. كل ساندويتشة تتكون من طبقتين؛ برانية طرية دافئة، وجوانية رقيقة من الحمّص والفلافل.
بعد الأكل يدبّ النشاط في ساقي حسن النحيلتين، فيبدأ بركل أصحابه والقفز فوق ظهورهم، وخلال ذلك يقوم برسم خطة اللعب وتوزيعهم على المراكز.
تتكون كرة حسن من طبقتين؛ برانية سميكة جوفاء، وجوانية محشوّة بالأهداف التي ينوي تسجيلها، يملؤها خلال الحصص بواسطة منفاخ يدوي يتناوب عليه المعلمون فتكتسب الكرة استدارتها وصلابتها وتغدو جاهزة للركل والنطح.
خلال المباراة تتشقق الطبقتان الخارجيتان اللتان تغلفان حسن وكرته؛ هو يتحول إلى طائر لا يهدأ، ييسط جناحيه كلما سجل هدفاً، ويتمايل مثل صقر فوق الملعب، وهي تتحول إلى سرب من الأرانب المذعورة تهرب نحو المرمى لتختبئ فيه.

اقرأ أيضاً: أدخن مع قاتلي

بطّانية مزركشة

آخر عشر سنوات من عمر جدتي هي أوّل عشر سنوات من عمري، خلالها لم أشاهدها تغادر بطّانيتها المرقعة طول النهار، تجلس فوقها بوجهها المستدير وعينيها الصغيرتين من دون عمود فقري ولا ساقين، لا يتحرّك فيها غير لسانها وأطراف أصابعها. أدخل غرفتها كل صباح لأروي لها الحلم الذي رأيته فتسألني :
- أين ستجلس اليوم؟
أمرر نظري حائراً على اللوحة القماشية المزركشة تحتها ثم أختار رقعة وأتربّع فوقها.
- اللون الأصفر! أقول. تهزّ جدتي رأسها وتضيف :
- إذن ستحكي لي حكاية "بنات حَبّ الرمان".
أحكي لها الحكاية، وقبل أن أمضي أرى جسدها أصغر وبطانيتها أكبر، إلى أن جاء صباح رأيت فيه أمي واقفة وسط البطانية فوق الحكاية السوداء. فتحت أمي خزانة جدتي المتهالكة وأخذت ترمي خِلَقها وأثوابها فوق البطانية، ثم جمعتْ أطرافها وعقدتها حول الكومة، ثم طلبت مني أن أحمل الصرّة الصغيرة إلى الخارج.
- ضعها بجانب الحاوية، فقد يأخذها شخص فينتفع بها فتكون صدقة عن روحها. قالت أمي.
أفرغتُ البطانية من محتوياتها ولففت جسدي بها فنبت لي جناحان وارتفعت قدماي عن الأرض. حملتُ البطانية وفردّتها فوق فراشي ونمت فوقها، وفي الفجر صحوت فدخلت غرفتها فرأيتها شابة تقف فوق بطانيتها وساقاها متباعدتان كأنها تمتطي فرساً على أهبة الانطلاق، أما البطانية فانتظمت ألوانها وامتدّت مستقيمة كبساط الريح.
- خذيني معك يا جدتي. توسّلتُ.
- عليك أن تعيش لتروي.
وما زالت حتى اليوم أستيقظ كل صباح لأروي حكاية جديدة.

اسم جدي

كتبت اسمي على صفحة من دفتري المدرسي. سألني جدّي : ماذا تكتب؟ قلت وأنا أمدّ إليه الدفتر : اسمي.
نظر جدي إلى الحروف المتشابكة التي تملأ الصفحة، ثم سألني وهو يبتسم : اسمك أم اسمي؟ أجبته وأنا أخفي الدفتر خلف ظهري : بل اسمي أنا.
لم يَدُر في خَلَدي أن أربعين شتاءً ستمرّ من دون أن أرى جدي، وأنه سيدفن تحت سروة في مقبرة القرية، وأنني سأعود لأقرأ الفاتحة على اسمي المحفور على شاهدة قبره.
المساهمون