تصدر حول القدس كتب كثيرة لما لهذه المدينة من مكانة في العالم، ولما تمثله من رمزية، حتى أصبحت النسبة إليها تعني كثيراً لبعض مدن العالم كسراييفو التي توصف بكونها "القدس الأوروبية". ولكن ليس كل ما يصدر عن القدس في اللغة العربية له قيمة، بل إن بعضه يجترّ المواضيع بعناوين جديدة على اعتبار أن كل ما يكتب عن المدينة المقدسة يظل مرغوباً في السوق، هذا فضلاً عن غياب الجهد المؤسسي والعمل الجماعي الأكاديمي حولها. وفي هذا السياق يأتي الترحيب بهذا المجلد الضخم عن القدس الذي صدر منذ أسابيع عن مؤسسة علمية معروفة على مستوى العالم، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في إسطنبول، التي تتبع مؤسسة التعاون الاسلامي بعنوان "القدس من خلال الصور في الماضي والحاضر".
نظراً لمكانة القدس في العالم، فقد استهوت هذه المدينة المصورين الأوربيين، منذ اختراع التصوير الفوتوغرافي، في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وجاء الى القدس مئات المصورين في العقود اللاحقة الذين صوّروا كل أثر، بل كلّ متر مربع من هذه المدينة الأخّاذة، مما أدى الى تجمع ثروة كبيرة من الصور الفوتوغرافية عن القدس. ونظراً الى أن السلطان عبدالحميد الثاني (الذي حكم بين 1876-1909) كان له ولع بالتصوير الفوتوغرافي فقد تجمّعت في قصر يلديز بإسطنبول ألبومات من الصور شملت القدس أيضاً. ولما استقر "مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية" (أرسيكا) في قصر يلديز، آلت هذه الثروة إليها فأصدر منها ألبومات عدة عن بعض المدن، كان آخرها عن القدس.
ولكن الفرق بين الألبوم الأخير والمجلد الحالي يكمن في الفكرة والمبادرة الجديدة. فقد انطلقت فكرة الكتاب حين كان كبير مستشاري رئيس الجمهورية، سفر توران، في زيارة للقدس القديمة، فوجد مجموعة من الصور القديمة عند مصوّر في حارة النصارى فاشتراها ومن بينها صورة عن المكان الذي كان يقف بالقرب منه، ولكن مع الفارق بين الماضي العثماني والواقع الإسرائيلي. وهكذا انطلقت الفكرة لإعداد هذا المجلد من الصور الذي يضم على الصفحة اليمنى الموقع كما كان عليه حتى مطلع القرن العشرين وعلى الصفحة اليسرى الموقع ذاته كما أصبح تحت الاحتلال الإسرائيلي بما يوضّح التغيرات الكبيرة التي طرأت على القدس. وينوّه هنا د. خالد إرن، مدير"أرسيكا" في تقديمه للكتاب الى التغيرات الكبيرة على هذه المواقع، لم تبدأ مع الاحتلال الإسرائيلي في 1967، بل مع الاحتلال الإنجليزي في 1917، حيث قام الإنجليز بهدم بعض المواقع الأثرية (برج الساعة المعروف بالمحمودية وبعض الأسبلة والمباني التاريخية) على الرغم من قيمتها الفنية، أي أن الأمر أصبح يتعلق بما تغيّر في القدس خلال المائة سنة الأخيرة (1917- 2014) . ولأجل إنجاز هذه الفكرة (مقابلة الصور القديمة للمواقع مع صور حديثة) تم الاتفاق مع المصور الفلسطيني، خالد زغاري، لالتقاط صور للمواقع ذاتها كما تبدو الآن تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومع الباحث الفلسطيني، ناجح بكيرات، الذي أعدّ النصوص المصاحبة للصور التي توضح بعض المعطيات المهمة.
يحتوي المجلد على 114 صورة قديمة لمواقع مقدسية مع 114 صورة حديثة للمواقع نفسها الآن بعد التغيرات التي طرأت عليها خلال المائة سنة الأخيرة، وبالتحديد بعد الاحتلال الإنجليزي عام 1917 والاحتلال الإسرائيلي عام 1967. ونظراً لأننا في عصر الصورة، حيث تغني الصورة المعبّرة عن كتاب، ينجذب المرء الى كل صورة قديمة بالأبيض والأسود ليقارنها مع الصورة الملونة التي لا تجمّل، دائماً، الواقع بل تصدم القارئ لاكتشافه ما تغيّر في القدس خلال المائة سنة الأخيرة، وخصوصاً خلال العقود الخمسة الأخيرة، بعد أن ضمّت إسرائيل القدس إليها، وسعت بكل الوسائل إلى تغيير معالمها.
تشمل الصور الـ 114 منشآت دينية (جوامع وكنائس) ومنشآت مدنية (السور وبرج الساعة والسبلان والبيوت إلخ) ومنشآت تعليمية (مدارس) وأسواق وفنادق ومحلات وباعة صحف تعكس الحياة المدينية للسكان قبل أكثر من مائة عام وتدل على وجود ثقافة شعب، وليس على "أرض بلا شعب". وبالإضافة الى ذلك، تمثل بعض الصور أحداثاً تاريخية فارقة في تاريخ المدينة، ومن ذلك زيارة الإمبراطور الألماني، غليوم الثاني، القدس عام 1898، الذي كان أول عاهل أوروبي يدخل القدس منذ نهاية الحروب الصليبية. وكان الإمبراطور قد جاء الى يافا عن طريق البحر ثم ركب عربته الى القدس، حيث قامت السلطات العثمانية بنقب السور وشق طريق خاص الى الفندق الذي نزل به. ومن ذلك، أيضاً، صورة الاحتفال بافتتاح محطة القطار في القدس في 26 أيلول 1892، بعد أن اكتمل مدّ سكة الحديد بين يافا والقدس التي كانت من أوائل سكك الحديد في المنطقة.
وتضم بعض هذه الصور ماله علاقة بتاريخ فلسطين الحديث. فهناك صورة لما كان يعرف بـ"عمارة الست"، وهي من أجمل المنشآت التي بنيت في العصر المملوكي، التي بنتها في نهاية القرن الرابع عشر الأميرة طنشق المظفرية (توفيت في عام 1398) بعد أن زارت القدس وأحبتها فقررت أن تبني هذه "العمارة" لأهل القدس وبنت تربة لكي تدفن فيها بعد موتها. وقد تحولت هذه العمارة في عام 1874 الى مقرّ لمتصرف القدس أو للكيان الفلسطيني الحديث.
فقد أنشأت إسطنبول هذا الكيان المستقل عن الولايات المجاورة (دمشق وبيروت) والمرتبط مباشرة فيها ليضم أقضية القدس ويافا والخليل وغزة والناصرة (منذ عام 1906)، وهي الفترة التي أخذت فيها هذه المتصرفية تظهر في الخرائط العثمانية باسم "فلسطين"، ولذلك أصبح يعرف بـ"دار السرايا". وبعد الاحتلال البريطاني للقدس عام 1917 أصبح في تصرف سلطة الاحتلال الى أن قام المجلس الإسلامي الأعلى (تأسس عام 1921) باسترداده وتحويله الى "دار الأيتام" ثم الى مدرسة صناعية ساهمت في تعليم وتدريب أجيال من اليافعين على المهن المختلفة. ومن هنا ربما تستحق هذه "العمارة" التاريخية أن تكون أكثر من ذلك لما تعنيه بالنسبة لتاريخ فلسطين الحديث.
ومن ناحية أخرى تعكس بعض الصور الاحتفالات الدينية والاجتماعية كالأعراس والمناسبات المسيحية (مثل طقوس النار المقدسة) التي تجسّد التعايش بين المسلمين والمسيحيين. كذلك تبرز بعض الصور الوجود اليهودي الجديد الذي يمثله كشك للجرائد في اللغة العبرية وتزايد اليهود لزيارة حائط البراق الذي هو الجزء الجنوبي من السور الغربي للمسجد الأقصى بعد أن غدا مقدّساً لديهم باسم "حائط المبكى". وعلى حين أن الصورة بالأبيض والأسود تظهر الحيز الضيق بين السور وحارة المغاربة، نسبة الى الذين جاؤوا مع صلاح الدين واستقروا في المدينة، فإن الصورة الحديثة تظهر الموقع بعد أن قامت السلطات الإسرائيلية بجرف حارة المغاربة بأكملها، في اليوم الثاني، لاحتلال المدينة (7 حزيران 1967) لإقامة ساحة واسعة أمام حائط المبكى.
إن الصور الموجودة في هذا المجلد تقدم خلفية مهمة عن القدس، كما كانت، حتى مطلع القرن العشرين، وهي تفيد في دراسة التطور العمراني وفي توثيق حالة المنشآت التاريخية لكي يستفاد منها في ترميم بعضها، كما تفيد في التعرف على الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد واللباس وتطور وسائل المواصلات، وفوق هذا وذاك على ما لحق بالمدينة من تغيرات نتيجة للاحتلالين الإنجليزي والإسرائيلي. ومن هنا فالمجلد لا يعدّ مهماً فقط للمؤرخين والمعماريين بل لكل المعنيين والمحبين للقدس. ونظراً لقيمة هذه الصور فقد كان من الضروري توثيق تواريخها لأنها تغطي فترة طويلة تمتد من منتصف القرن التاسع عشر الى 1917. وأخيراً، لابد من القول إن الناشر أحسن في تقديم الشرح للصور في اللغات الثلاث (العربية والإنجليزية والتركية) مما يجعل دائرة الاستفادة من هذا المجلد مفتوحة على كل العالم.
(أكاديمي كوسوفي/ سوري)
نظراً لمكانة القدس في العالم، فقد استهوت هذه المدينة المصورين الأوربيين، منذ اختراع التصوير الفوتوغرافي، في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وجاء الى القدس مئات المصورين في العقود اللاحقة الذين صوّروا كل أثر، بل كلّ متر مربع من هذه المدينة الأخّاذة، مما أدى الى تجمع ثروة كبيرة من الصور الفوتوغرافية عن القدس. ونظراً الى أن السلطان عبدالحميد الثاني (الذي حكم بين 1876-1909) كان له ولع بالتصوير الفوتوغرافي فقد تجمّعت في قصر يلديز بإسطنبول ألبومات من الصور شملت القدس أيضاً. ولما استقر "مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية" (أرسيكا) في قصر يلديز، آلت هذه الثروة إليها فأصدر منها ألبومات عدة عن بعض المدن، كان آخرها عن القدس.
ولكن الفرق بين الألبوم الأخير والمجلد الحالي يكمن في الفكرة والمبادرة الجديدة. فقد انطلقت فكرة الكتاب حين كان كبير مستشاري رئيس الجمهورية، سفر توران، في زيارة للقدس القديمة، فوجد مجموعة من الصور القديمة عند مصوّر في حارة النصارى فاشتراها ومن بينها صورة عن المكان الذي كان يقف بالقرب منه، ولكن مع الفارق بين الماضي العثماني والواقع الإسرائيلي. وهكذا انطلقت الفكرة لإعداد هذا المجلد من الصور الذي يضم على الصفحة اليمنى الموقع كما كان عليه حتى مطلع القرن العشرين وعلى الصفحة اليسرى الموقع ذاته كما أصبح تحت الاحتلال الإسرائيلي بما يوضّح التغيرات الكبيرة التي طرأت على القدس. وينوّه هنا د. خالد إرن، مدير"أرسيكا" في تقديمه للكتاب الى التغيرات الكبيرة على هذه المواقع، لم تبدأ مع الاحتلال الإسرائيلي في 1967، بل مع الاحتلال الإنجليزي في 1917، حيث قام الإنجليز بهدم بعض المواقع الأثرية (برج الساعة المعروف بالمحمودية وبعض الأسبلة والمباني التاريخية) على الرغم من قيمتها الفنية، أي أن الأمر أصبح يتعلق بما تغيّر في القدس خلال المائة سنة الأخيرة (1917- 2014) . ولأجل إنجاز هذه الفكرة (مقابلة الصور القديمة للمواقع مع صور حديثة) تم الاتفاق مع المصور الفلسطيني، خالد زغاري، لالتقاط صور للمواقع ذاتها كما تبدو الآن تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومع الباحث الفلسطيني، ناجح بكيرات، الذي أعدّ النصوص المصاحبة للصور التي توضح بعض المعطيات المهمة.
يحتوي المجلد على 114 صورة قديمة لمواقع مقدسية مع 114 صورة حديثة للمواقع نفسها الآن بعد التغيرات التي طرأت عليها خلال المائة سنة الأخيرة، وبالتحديد بعد الاحتلال الإنجليزي عام 1917 والاحتلال الإسرائيلي عام 1967. ونظراً لأننا في عصر الصورة، حيث تغني الصورة المعبّرة عن كتاب، ينجذب المرء الى كل صورة قديمة بالأبيض والأسود ليقارنها مع الصورة الملونة التي لا تجمّل، دائماً، الواقع بل تصدم القارئ لاكتشافه ما تغيّر في القدس خلال المائة سنة الأخيرة، وخصوصاً خلال العقود الخمسة الأخيرة، بعد أن ضمّت إسرائيل القدس إليها، وسعت بكل الوسائل إلى تغيير معالمها.
تشمل الصور الـ 114 منشآت دينية (جوامع وكنائس) ومنشآت مدنية (السور وبرج الساعة والسبلان والبيوت إلخ) ومنشآت تعليمية (مدارس) وأسواق وفنادق ومحلات وباعة صحف تعكس الحياة المدينية للسكان قبل أكثر من مائة عام وتدل على وجود ثقافة شعب، وليس على "أرض بلا شعب". وبالإضافة الى ذلك، تمثل بعض الصور أحداثاً تاريخية فارقة في تاريخ المدينة، ومن ذلك زيارة الإمبراطور الألماني، غليوم الثاني، القدس عام 1898، الذي كان أول عاهل أوروبي يدخل القدس منذ نهاية الحروب الصليبية. وكان الإمبراطور قد جاء الى يافا عن طريق البحر ثم ركب عربته الى القدس، حيث قامت السلطات العثمانية بنقب السور وشق طريق خاص الى الفندق الذي نزل به. ومن ذلك، أيضاً، صورة الاحتفال بافتتاح محطة القطار في القدس في 26 أيلول 1892، بعد أن اكتمل مدّ سكة الحديد بين يافا والقدس التي كانت من أوائل سكك الحديد في المنطقة.
وتضم بعض هذه الصور ماله علاقة بتاريخ فلسطين الحديث. فهناك صورة لما كان يعرف بـ"عمارة الست"، وهي من أجمل المنشآت التي بنيت في العصر المملوكي، التي بنتها في نهاية القرن الرابع عشر الأميرة طنشق المظفرية (توفيت في عام 1398) بعد أن زارت القدس وأحبتها فقررت أن تبني هذه "العمارة" لأهل القدس وبنت تربة لكي تدفن فيها بعد موتها. وقد تحولت هذه العمارة في عام 1874 الى مقرّ لمتصرف القدس أو للكيان الفلسطيني الحديث.
فقد أنشأت إسطنبول هذا الكيان المستقل عن الولايات المجاورة (دمشق وبيروت) والمرتبط مباشرة فيها ليضم أقضية القدس ويافا والخليل وغزة والناصرة (منذ عام 1906)، وهي الفترة التي أخذت فيها هذه المتصرفية تظهر في الخرائط العثمانية باسم "فلسطين"، ولذلك أصبح يعرف بـ"دار السرايا". وبعد الاحتلال البريطاني للقدس عام 1917 أصبح في تصرف سلطة الاحتلال الى أن قام المجلس الإسلامي الأعلى (تأسس عام 1921) باسترداده وتحويله الى "دار الأيتام" ثم الى مدرسة صناعية ساهمت في تعليم وتدريب أجيال من اليافعين على المهن المختلفة. ومن هنا ربما تستحق هذه "العمارة" التاريخية أن تكون أكثر من ذلك لما تعنيه بالنسبة لتاريخ فلسطين الحديث.
ومن ناحية أخرى تعكس بعض الصور الاحتفالات الدينية والاجتماعية كالأعراس والمناسبات المسيحية (مثل طقوس النار المقدسة) التي تجسّد التعايش بين المسلمين والمسيحيين. كذلك تبرز بعض الصور الوجود اليهودي الجديد الذي يمثله كشك للجرائد في اللغة العبرية وتزايد اليهود لزيارة حائط البراق الذي هو الجزء الجنوبي من السور الغربي للمسجد الأقصى بعد أن غدا مقدّساً لديهم باسم "حائط المبكى". وعلى حين أن الصورة بالأبيض والأسود تظهر الحيز الضيق بين السور وحارة المغاربة، نسبة الى الذين جاؤوا مع صلاح الدين واستقروا في المدينة، فإن الصورة الحديثة تظهر الموقع بعد أن قامت السلطات الإسرائيلية بجرف حارة المغاربة بأكملها، في اليوم الثاني، لاحتلال المدينة (7 حزيران 1967) لإقامة ساحة واسعة أمام حائط المبكى.
إن الصور الموجودة في هذا المجلد تقدم خلفية مهمة عن القدس، كما كانت، حتى مطلع القرن العشرين، وهي تفيد في دراسة التطور العمراني وفي توثيق حالة المنشآت التاريخية لكي يستفاد منها في ترميم بعضها، كما تفيد في التعرف على الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد واللباس وتطور وسائل المواصلات، وفوق هذا وذاك على ما لحق بالمدينة من تغيرات نتيجة للاحتلالين الإنجليزي والإسرائيلي. ومن هنا فالمجلد لا يعدّ مهماً فقط للمؤرخين والمعماريين بل لكل المعنيين والمحبين للقدس. ونظراً لقيمة هذه الصور فقد كان من الضروري توثيق تواريخها لأنها تغطي فترة طويلة تمتد من منتصف القرن التاسع عشر الى 1917. وأخيراً، لابد من القول إن الناشر أحسن في تقديم الشرح للصور في اللغات الثلاث (العربية والإنجليزية والتركية) مما يجعل دائرة الاستفادة من هذا المجلد مفتوحة على كل العالم.
(أكاديمي كوسوفي/ سوري)