دأب القارئ قديماً، وحتى وقت ليس ببعيد، على تخيُّل صورة معيَّنة للمؤلّفين من خلال ما يستشفّ من قراءته إيَّاهم. والأكيد عربيّاً أنه لم يخطر على بال شعرائنا وكتّابنا القدامى أن يُدرجوا لهم صورة في مؤلَّفاتهم، بسبب سيادة الرواية الشفهية، وغياب الصورة لديهم، والتي أسهمتْ عوامل عديدة في إجهاض فرص وجودها.
بينما في الغرب، الذي كانت له ألفة مع النحت والتشكيل، فإن اختراع غوتنبرغ المطبعةَ في ألمانيا، أتاح إدْراجَ صور بعض المؤلّفين مرسومين يدويّاً على أغلفة كُتبهم أحياناً، أو في الصّفحات الأولى لمؤلَّفاتهم. ومع التطوّر التكنولوجي والرقمي الهائل، في القرن العشرين، فرضتْ ثقافةُ الصورة نفسَها على الحياة اليومية، بما في ذلك مجال النشر الذي لا يفتأ يتطوّر، ويُبدِع في أشكاله وتصميماته وإخراجه.
وهكذا أصبحنا نرى على الغلاف الأخير للكتب صورةَ المؤلِّف ونبذةً عن سيرته. وجرت العادة أنْ يكون ذلك التقديم مُتَّفقاً عليه بين المؤلِّف والناشر، لَمَّا يُقدَّم الكاتب إلى جمهوره الأصلي، أي الذي يشترك معه المؤلِّف في اللغة الأصلية والثقافة نفسها.
الإجحاف في حقّ المترجمين يأتي من دور النّشر تحديداً
وغالباً ما يتصوَّر المؤلِّف أن حُلولَه ضيفاً على ثقافة أجنبية لن يختلف في شيء عن صدوره في ثقافته الأصلية، لكنَّ ما يَفوتُه هو أنّه عندما يُترجَم إلى لغة واحدة، فإنه يُقدَّم في صورةٍ تختلف بعدد مترجِميه إلى تلك الثقافة، الذين يصنع له كلُّ واحدٍ منهم صورةً مختلفة عن المترجِم الآخر، وهو ما نبَّه إليه الأرجنتيني بورخيس، الذي صرَّح لمُستجوبه فِرَّاري أُوسْفالْدو في كتاب "في حوارII"، قائلاً: "سمح لي جهلي باللغة العربية أن أقرأ ستّ ترجمات لألف ليلة وليلة أو سبعاً، بحيث لربما كان مناسباً تجاهل اللغات، لأنه في هذه الحال، تُتاح للمرء قراءةُ العديد من الروايات لكتاب واحد".
لا غرو أن بورخيس يؤمِّن على ما يذهب إليه كثير من نقّاد الترجمة ومنظِّريها، الذين يَروْن أن الكتابَ الواحد المترجَم من قِبل كثيرين يَصنع للمؤلِّف الأصلي صورةً تختلف من مترجِم لآخر، على اعتبار أنّ لكُلّ مترجِم مَعيشَه المتفرِّد، وفهمَه الخاصَّ، ومُعجَمه المميَّز، وأسلوبَه في التحرير واستراتيجياتِه في إعادته الكتابة، وأن جُماع التفاعُل بين هذه الأطراف يقود إلى صناعة صورة أخرى للمؤلِّف في غير ثقافته، صورة لا شك في أنّ فيها نصيباً من المترجِم.
والعجيب أنّه لولا نضال المترجِمين، خلال العقود الأخيرة، لما أفلحوا في أنْ تحتل أسماؤهم مساحات محترمة على أغلفة الأعمال التي ترجموها، وهو مكسب كبير نالوه في بلدان عديدة.
ومعلوم أنّ الإجحاف في حقّهم يأتي من دور النّشر تحديداً، تلك التي تعوَّدت بَخسَهم قَدرهم اللائق، بإصرارِ بعض مالكيها على التغاضي عن المترجِم، بل إنهم في أحسن الأحوال يكتفون بكتابة اسمه في صفحة داخلية فحسب. وهذه ممارسةٌ يُمكن إدراجُها ضمن ما ندّد به الباحث لورانس فينوتي، لأنها تستهدف إخفاء المترجِم.
إن اسم المترجِم صورتُه أيْضاً، وبناءً على هذا الطرح، يكون من المعقول جدّاً أن تحضر هذه الصُّورة بدورها في غلاف الكتاب، بل أكثر من ذلك، يكون لزاماً أن يُحترَم اسمُ المترجِم، فتظهر له صورةٌ فوتوغرافية في غلاف الكتاب أيضاً، وهذا ما شرعت بعضُ دور النشر في الالتزام به، من خلال وضع طيَّتيْن داخِليتيْن؛ الأولى تكون في خلفية غلاف الواجهة، وتتضمّن صورة المؤلِّف الأصلي ونبذة عن سيرته ومؤلَّفاته، والثانية تكون في الطَّيّة الداخلية للغلاف الخلفي، التي تحوي صورة المترجِم ونبذة عن سيرته ومترْجَماته.
واللافت في بعض ما تُرجِم إلى العربيَّة أنْ يُحتفى بالمترجِم أكثر من المؤلِّف، ولعل المثال الصارخ هنا هو مصطفى لطفي المنفلوطي في ترجماته، التي احتُفي في بعض طبعاتها بصورته معتمِراً عمامة، وبشاربين عريضين، وجُبَّة أزهريّة داكنة، حتى لكأنَّه المؤلِّفُ وليس المترجِم.
* أكاديمي ومترجم من المغرب