02 اغسطس 2017
صعود الشعبوية الليبرالية.. فرنسا نموذجاً
تعرف السنة الجارية استحقاقاتٍ انتخابية كبيرة في أوروبا، فقد عرفت كل من النمسا، هولندا وفرنسا انتخاباتٍ، وستتحول الأنظار إلى ألمانيا التي ستنظم فيها انتخاباتٌ برلمانية في سبتمبر/ أيلول المقبل.
وقد تميزت الانتخابات في هذه الدول الأوروبية بصراع قوتين متباعدتين، ومختلفتين في المبنى والمعنى، أشهرها تيار الشعوبية القومية الذي تتبناه الأحزاب اليمينية المتطرّفة، والذي يعتمد على خطاب سياسي حاد يعادي العولمة، الانفتاح والهجرة، معتمدا في ذلك على نهجٍ عنصري، هدفه الترويع للتركيع، حيث يتغذّى على انتشار مظاهر التطرّف، وعلى الأحداث الإرهابية التي شهدتها أوروبا في السنوات الأخيرة الماضية، لتخويف المواطنين من المهاجرين، ومن الإسلام.
على الصعيد الاقتصادي، تروج هذه الأحزاب ضرورة الخروج من الاتحاد الأوروبي لمواجهة العولمة المتوحشّة، حسب زعمها، وتبني سياسةً حمائية، تغلق المنافذ الاقتصادية على الآخر، وتكبح جماح التنافسية، وتعطي الأفضلية للمنتج الوطني، كما يقوّي أواصره داخل المجتمعات الأوروبية، عبر محوريين رئيسيين. يتجلى الأول في نشر قيم الانغلاق وكره الآخر، والحديث عن الوطنية والإفراط في القومية، من خلال اللغة الرسمية، العادات والتقاليد والأفضلية مقارنة بالأقوام الأخرى. بينما يتمثل المحور الثاني في الاستفادة من التيارات التقليدية في أوروبا، ومحاولة استقطاب جماهيريتها التي يئست من الوضع السياسي الراكد، وسئمت التنابذ الإيديولوجي، وتبحث عن حلولٍ واقعية لمشكلاتها اليومية، كالبطالة، غلاء الأسعار، الفقر والتهميش، فتجد ضالتها في التيارات الشعبوية اليمينية، وتمنحها أصواتها عقابا لباقي الأحزاب السياسية، ومحاولة للتغيير الجذري.
من ناحية أخرى، يصعد تيار الشعبوية الليبرالية، ويكسب مزيدا من المساحات، منافسا قويا وحصانا رابحا في اللعبة الانتخابية في أوروبا، ففي فرنسا، أحدث إيمانويل ماكرون مفاجأة بحركته "الجمهورية إلى الأمام"، بحصوله على رئاسة فرنسا، وأغلبية برلمانية جد مريحة في جمعيتها العمومية، فالرئيس الشاب لم يكن معروفا قبل سنتين، وجاء نجاحه بمثابة صعود مبرمج لرجل مثالي، يتم تقديمه للرأي العام منقذ فرنسا، والقادر على تحسين أوضاعها.
فماكرون مر من مؤسسات تعليمية راقية في فرنسا، كالمدرسة الوطنية للإدارة ومعهد الدراسات السياسية، ناهيك عن مروره بوزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية موظفا، ثم مديرا في بنك روتشيلد العالمي، قبل أن يصبح مستشارا للرئيس الفرنسي السابق، فرنسوا هولاند، وفيما بعد وزيرا للاقتصاد والصناعة.
لدى ماكرون خلفية اقتصادية وتجربة مهنية في عالم المال والأعمال، مقدّما نموذجا اقتصاديا ليبراليا، جوهره الانفتاح التجاري، وتشجيع القطاع الخاص، عبر ريادة الأعمال، حيث قدم في حملته الانتخابية عرضا اقتصاديا، يتمحور حول ضرورة دعم الاستثمار طريقاً لإيجاد فرص الشغل، مع ضرورة إصلاح الأجور، حيث يطمح إلى تخفيض الفرق بين الدخل الخام والدخل الصافي، من خلال تقليص التكاليف الاجتماعية، كما وعد بمرونةٍ في نظام التقاعد، وتخفيض الضريبة على الشركات، من 35% إلى 15%، الأمر الذي يمكن، من خلاله، تخفيض البطالة إلى 7% سنة 2022 وإمكانية توفير 60 مليار يورو لإصلاح المالية العامة، مع تخفيض تحفيزات العاطلين عن العمل والاهتمام بالطبقة الوسطى. علاوة على ذلك، تبنّى ماكرون مواقف معتدلة فيما يخص الإسلام، الهجرة والهوية، حيث يمكن تصنيفه من أنصار العلمانية المؤمنة التي تحتوي الأديان، وتتعايش مع أنماط التديّن في بلدٍ يُعرف بعلمانيةٍ متصلبة، لها ذاكرة تاريخية سيئة مع الدين.
ومما يجب التوقف عنده أن تيار الليبرالية الشعبوية في فرنسا الذي يتزّعمه ماكرون يروج قيما ليبرالية، فيعطي مثالا بالشاب المليونير، رائد الأعمال الناجح في مساره المهني والقادر على التغيير، فما تم تسويقه في أثناء حملة ماكرون هو الرغبة في إعادة تشكيل المشهد السياسي الفرنسي، والأوروبي عامة، عبر تصعيد وجوه جديدة، تكون لها عذرية سياسية، وقادرة على استغلال الإشكالات الأوروبية والفرنسية الراهنة، والمتمثلة في أزمةٍ ديمقراطيةٍ، وعجز هذه الدول الأوروبية على حوكمة التعدّد وتجديد أنظمتها السياسية التي صمّمت للعصر الصناعي، إبّان الحرب العالمية الثانية، ولم تعد قادرةً على مواكبة العصر المعلوماتي الذي نعيش فيه، كما أصيبت مؤسستها بالارتهان، فلم تعد قادرةً على الإنتاجية والإبداع، وهي بذلك في حاجةٍ ماسّة إلى إصلاح مؤسساتي، بفكر جديد، وفلسفة مغايرة لما سبق يكون منهاجها التحديث،
الاستراتيجية والتطوير والحكم التشاركي، إذ يمكن للمواطن أن يساهم في صناعة السياسات، ولا يتم استدعاؤه فقط مرة كل أربع أو خمس سنوات، ليدلي بصوته لصالح شخصٍ أو حزب معين، فعندما يساهم المواطن في إعداد سياسة بلده، ويساهم دوريا في توجهاته، تصبح الديمقراطية مستدامةً ومتينة.
علاوة على ذلك، تحاول الشعبوية الليبرالية إقناع مريديها بالقطيعة مع الماضي، والقدرة على إعادة الثقة في نفوس المواطنين، وإعادة الاعتبار للوطن من خلال روح المبادرة، وتقوية تنافسية الاقتصاد، وأنها مشروعٌ يقبل الجميع، ويمكن لأي شخص أن يجد نفسه فيه، فما قام به ماكرون في فرنسا عبر هذا الخطاب هو استقطاب مجموعاتٍ من اليسار واليمين على حد سواء، وجلب وجوه جديدة لها كفاءةٌ، ومتخصصة في مجالات عديدة، وبذلك حول حزبه إلى حزب تكنوقراط، متغذيا على أخطاء التيارات الأخرى. وفي المقابل، يعيق تقدّم الشعبوية الليبرالية الديمقراطية، ويجعلها مشوهة، فما يحدث في فرنسا يوضح تمكّن حزبٍ واحدٍ من كل السلطات، ويفترس باقي الأحزاب التي تواجه خطر الانقراض، الأمر الذي يجعل المؤسسات المنتخبة جد نخبوية، ولا تمتلك معارضة قوية قادرة على التقويم، وقد يؤدي ذلك إلى اغتيال الحياة السياسية الحرة.
يبدو أن الشعبوية الليبرالية تخطو بخطىً واثقة، وتغزو فرنسا وغيرها، في ظل انهيار الإيديولوجيات، وتشتت الأحزاب، فأصبحت هذه الشعبوية بديلا سياسيا ينشر قيما براقة، حول مشروع سياسي، لكن زحف الشعبوية والتهامها باقي الأحزاب يهدّد الديمقراطية، أو ربما ينذر بطور سياسي جديد، وأشكال مختلفة في الحكم.
وقد تميزت الانتخابات في هذه الدول الأوروبية بصراع قوتين متباعدتين، ومختلفتين في المبنى والمعنى، أشهرها تيار الشعوبية القومية الذي تتبناه الأحزاب اليمينية المتطرّفة، والذي يعتمد على خطاب سياسي حاد يعادي العولمة، الانفتاح والهجرة، معتمدا في ذلك على نهجٍ عنصري، هدفه الترويع للتركيع، حيث يتغذّى على انتشار مظاهر التطرّف، وعلى الأحداث الإرهابية التي شهدتها أوروبا في السنوات الأخيرة الماضية، لتخويف المواطنين من المهاجرين، ومن الإسلام.
على الصعيد الاقتصادي، تروج هذه الأحزاب ضرورة الخروج من الاتحاد الأوروبي لمواجهة العولمة المتوحشّة، حسب زعمها، وتبني سياسةً حمائية، تغلق المنافذ الاقتصادية على الآخر، وتكبح جماح التنافسية، وتعطي الأفضلية للمنتج الوطني، كما يقوّي أواصره داخل المجتمعات الأوروبية، عبر محوريين رئيسيين. يتجلى الأول في نشر قيم الانغلاق وكره الآخر، والحديث عن الوطنية والإفراط في القومية، من خلال اللغة الرسمية، العادات والتقاليد والأفضلية مقارنة بالأقوام الأخرى. بينما يتمثل المحور الثاني في الاستفادة من التيارات التقليدية في أوروبا، ومحاولة استقطاب جماهيريتها التي يئست من الوضع السياسي الراكد، وسئمت التنابذ الإيديولوجي، وتبحث عن حلولٍ واقعية لمشكلاتها اليومية، كالبطالة، غلاء الأسعار، الفقر والتهميش، فتجد ضالتها في التيارات الشعبوية اليمينية، وتمنحها أصواتها عقابا لباقي الأحزاب السياسية، ومحاولة للتغيير الجذري.
من ناحية أخرى، يصعد تيار الشعبوية الليبرالية، ويكسب مزيدا من المساحات، منافسا قويا وحصانا رابحا في اللعبة الانتخابية في أوروبا، ففي فرنسا، أحدث إيمانويل ماكرون مفاجأة بحركته "الجمهورية إلى الأمام"، بحصوله على رئاسة فرنسا، وأغلبية برلمانية جد مريحة في جمعيتها العمومية، فالرئيس الشاب لم يكن معروفا قبل سنتين، وجاء نجاحه بمثابة صعود مبرمج لرجل مثالي، يتم تقديمه للرأي العام منقذ فرنسا، والقادر على تحسين أوضاعها.
لدى ماكرون خلفية اقتصادية وتجربة مهنية في عالم المال والأعمال، مقدّما نموذجا اقتصاديا ليبراليا، جوهره الانفتاح التجاري، وتشجيع القطاع الخاص، عبر ريادة الأعمال، حيث قدم في حملته الانتخابية عرضا اقتصاديا، يتمحور حول ضرورة دعم الاستثمار طريقاً لإيجاد فرص الشغل، مع ضرورة إصلاح الأجور، حيث يطمح إلى تخفيض الفرق بين الدخل الخام والدخل الصافي، من خلال تقليص التكاليف الاجتماعية، كما وعد بمرونةٍ في نظام التقاعد، وتخفيض الضريبة على الشركات، من 35% إلى 15%، الأمر الذي يمكن، من خلاله، تخفيض البطالة إلى 7% سنة 2022 وإمكانية توفير 60 مليار يورو لإصلاح المالية العامة، مع تخفيض تحفيزات العاطلين عن العمل والاهتمام بالطبقة الوسطى. علاوة على ذلك، تبنّى ماكرون مواقف معتدلة فيما يخص الإسلام، الهجرة والهوية، حيث يمكن تصنيفه من أنصار العلمانية المؤمنة التي تحتوي الأديان، وتتعايش مع أنماط التديّن في بلدٍ يُعرف بعلمانيةٍ متصلبة، لها ذاكرة تاريخية سيئة مع الدين.
ومما يجب التوقف عنده أن تيار الليبرالية الشعبوية في فرنسا الذي يتزّعمه ماكرون يروج قيما ليبرالية، فيعطي مثالا بالشاب المليونير، رائد الأعمال الناجح في مساره المهني والقادر على التغيير، فما تم تسويقه في أثناء حملة ماكرون هو الرغبة في إعادة تشكيل المشهد السياسي الفرنسي، والأوروبي عامة، عبر تصعيد وجوه جديدة، تكون لها عذرية سياسية، وقادرة على استغلال الإشكالات الأوروبية والفرنسية الراهنة، والمتمثلة في أزمةٍ ديمقراطيةٍ، وعجز هذه الدول الأوروبية على حوكمة التعدّد وتجديد أنظمتها السياسية التي صمّمت للعصر الصناعي، إبّان الحرب العالمية الثانية، ولم تعد قادرةً على مواكبة العصر المعلوماتي الذي نعيش فيه، كما أصيبت مؤسستها بالارتهان، فلم تعد قادرةً على الإنتاجية والإبداع، وهي بذلك في حاجةٍ ماسّة إلى إصلاح مؤسساتي، بفكر جديد، وفلسفة مغايرة لما سبق يكون منهاجها التحديث،
علاوة على ذلك، تحاول الشعبوية الليبرالية إقناع مريديها بالقطيعة مع الماضي، والقدرة على إعادة الثقة في نفوس المواطنين، وإعادة الاعتبار للوطن من خلال روح المبادرة، وتقوية تنافسية الاقتصاد، وأنها مشروعٌ يقبل الجميع، ويمكن لأي شخص أن يجد نفسه فيه، فما قام به ماكرون في فرنسا عبر هذا الخطاب هو استقطاب مجموعاتٍ من اليسار واليمين على حد سواء، وجلب وجوه جديدة لها كفاءةٌ، ومتخصصة في مجالات عديدة، وبذلك حول حزبه إلى حزب تكنوقراط، متغذيا على أخطاء التيارات الأخرى. وفي المقابل، يعيق تقدّم الشعبوية الليبرالية الديمقراطية، ويجعلها مشوهة، فما يحدث في فرنسا يوضح تمكّن حزبٍ واحدٍ من كل السلطات، ويفترس باقي الأحزاب التي تواجه خطر الانقراض، الأمر الذي يجعل المؤسسات المنتخبة جد نخبوية، ولا تمتلك معارضة قوية قادرة على التقويم، وقد يؤدي ذلك إلى اغتيال الحياة السياسية الحرة.
يبدو أن الشعبوية الليبرالية تخطو بخطىً واثقة، وتغزو فرنسا وغيرها، في ظل انهيار الإيديولوجيات، وتشتت الأحزاب، فأصبحت هذه الشعبوية بديلا سياسيا ينشر قيما براقة، حول مشروع سياسي، لكن زحف الشعبوية والتهامها باقي الأحزاب يهدّد الديمقراطية، أو ربما ينذر بطور سياسي جديد، وأشكال مختلفة في الحكم.