صراع الإثنيات والطوائف.. وقائع وصور

02 أكتوبر 2014

محارب في ميليشيا في الحرب الأهلية اللبنانية (1984/Getty)

+ الخط -

تندرج الإشكالات المرتبطة بموضوع الإثنيات والطوائف في المجتمعات العربية ضمن السياق العام للأسئلة المرتبطة بالإصلاح والتحول الديمقراطيَّين، الحاصلَين في هذه المجتمعات، وقد تضاعفت أسئلة هذا الموضوع، اليوم، في أزمنة ما بعد انفجارات 2011، وتداعياتها المتلاحقة.

ينتابنا، ونحن نواجه الأسئلة والقضايا العديدة التي يطرحها الموضوع، في وضعنا التاريخي المتسم بالانتعاش الملحوظ للدعاوى الإثنية والطائفية، ينتابنا شعور يعزز لدينا الخوف من عودة المجتمعات العربية إلى مرحلة ما قبل نشوء الدولة الوطنية، وكأن العقود التي مرت، منذ استقلال هذه المجتمعات، لم تُمَكِّن أنظمتها السياسية من ترسيخ آليات التوحيد والاندماج المطلوبين في الدولة الوطنية الحديثة.

أصبحنا نلاحظ، في الآونة الأخيرة، سيادة عمليات استقطاب سياسي في أغلب المجتمعات العربية، تستخدم فيها آلياتٌ معينةٌ، لمذهبة الصراعات وتوظيف الطوائف، بل واستعمال الزوايا والطرق الصوفية، أيضاً، الأمر الذي يبرز بوضوح عدم قدرة هذه المجتمعات ونخبها وأنظمتها السياسية، على تخطي نظام الدولة السلطانية، وما يرتبط بها من مِلَل ونِحَلٍ.
 
تضاعفت، في السنوات الأخيرة، عمليات التوظيف السياسي للقبيلة والعِرق الدموي والمعتقد المذهبي، لتصنع حسابات مذهبية وطائفية، يمكن أن تدرج شبيهاً لما كانت تقوم به الدول الاستعمارية في زمن الحماية والاستعمار، فقد كانت تعمل على تجييش الأقليات، بل وصناعتها أحياناً، بهدف تفكيك الأنظمة السياسية القائمة، وتحويلها إلى أقاليم تحكمها عائلات، الأمر الذي يسهل إمكانية مواصلة هيمنتها عليها.

يضعنا الانفلات الإثني، وقد شمل، اليوم، بلداناً عربية عديدة في المشرق والمغرب العربيين، أمام وضعٍ يُفْضِي إلى تفتيت الدولة، ويمارس، في الآن نفسه، عملية تقويض لمقومات المجتمع. كما يضعنا أمام انعدام قدرة الدول القائمة على مجابهة تحديات التنمية وأسئلة الإصلاح السياسي الديمقراطي، وقد ترتب عن الضربات القوية التي لحقت الدولة، في أغلب المجتمعات العربية، نتيجة الظروف التي تلاحقت، في العقود الأخيرة من القرن الماضي، ما ضاعف هشاشة جسمها المتمثل في أنماط تَسَلُّطِها، والمتمثل، أيضاً، في عدم قدرتها على بناء شرعية مكافئة لتطلعات مجتمعها ونخبها. ومن دون إغفال علاقة ذلك كله بطبيعة الصراع الدولي والإقليمي القائمين في المشرق العربي، منذ نحو قرن.

وقبل بلورة ما يساعد على تسليط بعض الضوء على ظاهرة الانفلات الإثني والطائفي التي تفشت، أخيراً، في جسم مجتمعنا، نريد أن نشير إلى أحد وجوهها المعقدة، يتعلق الأمر بظاهرة التعدد الإثني الفعلية والتاريخية، باعتبارها جزءاً من بنية النسيج المجتمعي والتاريخي العربي، وباعتبارها، قبل ذلك، ظاهرة إنسانية مجتمعية عامة، وظاهرة التطييف المصطنعة والمرتبة قصد الاستخدام السياسي والحربي، في معارك مشتعلة في قلب المجتمعات العربية.

تعود خطورة المظهر الثاني، في نظرنا، بحكم أنها تُوظَّف بهدف محاصرة قيم معينة، فإذا كانت الدولة الوطنية تعمل على تدبير شؤونها العامة في إطار منظورٍ يمنح أهمية خاصة للمؤسسات والقوانين، فإن إطلاق فتنة التمذهب والطائفية بالاعتماد على الأعراق والعقائد المطلقة يؤدي إلى تقويض الدولة والمجتمع وتفتيتهما. فكيف حصل هذا؟ وما هو السر في عدم قدرة الأنظمة السياسية العربية ومعارضيها على المحافظة على مقومات الدولة؟ ولماذا لم يحصل الاندماج المطلوب في المجتمع؟ ولماذا عجزت الأنظمة السياسية العربية، بمختلف أشكالها، عن مواجهة التحديات التي تعترضها؟

يمكن أن نفهم البروز المكثف للإثنيات في مجتمعاتنا، باعتباره من العوامل المفسرة لإخفاق الدولة الوطنية في بلورة وعي وطني جامع، نفترض أنه لا يلغي التعدد، بل يصهره داخل هوية وطنية، أو قومية واحدة. كما يمكن أن نفسر تفكك المجتمع، بفعل احتكار أنظمة سياسية عربية كثيرة لمعايير الانتماء، ما يساهم في تهميش فئات وجهات عديدة في المجتمع.

نقرأ جوانب من معطيات ما أشرنا إليه، في كل من العراق وسورية ولبنان أمثلةً، وهو صراع يتجاوز، اليوم، الثلاثة عقود من الزمن، ويصنع في المجتمعات المذكورة صوراً من الارتباك والعنف، لا حصر لها. كما تترتب عنه نتائج تؤدي إلى هدر موارد كثيرة، من دون أن ننسى آثاره السلبية الصانعة لهشاشة الدولة والمجتمع في البلدان المذكورة.

إن التوظيف السياسي الذي يُشغِّل، اليوم، في قلب الثورات المشتعلة، مفاهيم ولغات وعقائد وأعراق، التاريخي منها والمصطنع، لا يُعنى بمسائل الاتساق النظري العقلاني، بل إنه يفتح إمكانية الاستفادة من كل ما يسمح بتحقيق مآربه وغاياته المصلحية والإثنية، خصوصاً ونحن نواجه، اليوم، في أغلب الساحات العربية أطواراً انتقالية، تسمح بإمكانية السطو على ما تحقق من مكاسب الدولة الوطنية ومكاسب الحالة الثورية.

ولا يجب أن نغفل، هنا، الإشارة إلى أن الدولة التسلطية في العالم العربي ساهمت بدور كبير في عملية إحياء الطوائف، فقد عملت على تحويل نفسها إلى طائفة، ما منح الطوائف شرعية، وفجّرها داخل المجتمع، كما عمل بعضها على استعمال الإثنيات في المؤسسة العسكرية، لضمان استمرار ولائها. وفي العمليتين معاً، نواجه خللاً بنيوياً عميقاً، حيث لم تتمكن الدولة الناشئة في المجتمعات العربية الحديثة، من الوعي بالتحولات الحاصلة في المجتمع، فظلت تحمل في شكلها الجديد ميراث المِلَل والنِّحل، الموروث من أنظمة السلطنة العثمانية، الأمر الذي سهّل إمكانية استعمال التمذهب والطائفية في حربٍ متواصلة، حرب أصبح يصعب، اليوم، التنبؤ بمساراتها ونتائجها.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".