صدمة البيان الأول.. في النواح على كأس العالم

05 يوليو 2018
(أثناء مباراة مصر وروسيا في مقهى قاهري، إبراهيم عزّت)
+ الخط -

لولا توقيت ظهوره خلال دقائق من هزيمة المنتخب الوطني المصري أمام روسيا في الدور الأول من كأس العالم، لبدا هذا الفيديو نكتة طارئة كسواه. مئات "المقاطع" تتداولها مواقع التواصل بغرض الترفيه والتعليق على الأحداث، ينفجر بعضها "فيروسيا" ويسقط أكثرها على وجهه. وهنا شاب غير لافت يقود سيارته في شوارع القاهرة ويقول كلاما مضحكا، إلى جواره كما نفهم زميل له يصوره. فلماذا لا يكون - شأن باسم يوسف ثم أحمد أمين - ظاهرة افتراضية جديدة في طور الانتقال من شاشات التلفون إلى شاشات التلفزيون؟ بدا الفيديو كـ"ديمو" كوميديان هاو يروّج لنفسه على "فيسبوك" فعلا.

لكن المتكلم الذي يلبس "الفانلة الحمرا" - دليل جديته كمشجع للمنتخب - ظهر على الـ"تايملاين" حوالي الثامنة والنصف من مساء 19 يونيو/حزيران، يعني بعد انتهاء المباراة مباشرة. ولم يكن في ما قدمه أي طموح فني: الصورة طولية تبعا لمسكة التلفون، والكلام مرتجل بلا تنقيح أو ضبط للتكرار والإطالة، والرسالة - إن الوفد المرافق "وشه وحش على المنتخب"، وإن المصري "من حقه يفرح" - لا تتجاوز ما كان الجميع يقوله ليلتها.

كل ما في الأمر هو التياع النبرة وعمق الشعور بالمأساة، علما بأن مثل هذه المبالغة في التعبير عن الحزن والغيظ هي إحدى أهم وسائل الإضحاك في مصر منذ التسعينيات. لكن ما يجعل هذا الفيديو وثيقة بل وبيانا سياسيا هو أن فيه صياغة صادقة للشعور الجماعي بما جرى في سياقه.

لم يكن ذلكم أول رد فعل على الخروج الفوري لفريق انتظر ثلاثة عقود ليدخل، وصاحبت دخوله "فشخرة" دعائية غير مسبوقة في وقت معاناة اقتصادية هي الأخرى غير مسبوقة على الإطلاق. لكنه تضمن أول إلقاء علني باللوم ليس على "اللعيبة" وحدهم وإنما - وبالأخص - على وفد "الفنانين" الذي رافقهم إلى موسكو، الأمر الذي سيتفاقم إلى ما يشبه أزمة رأي عام في الأسبوعين التاليين.

طاقم المشاهير الذين خذلوا المحتجين بالاصطفاف الفج مع السلطة سنة 2011 - ذلك رغم أنهم ينافسون فئة "المثقفين" على لقب "ضمير الأمة" - أصبحوا محط سخط المشجعين الآن. واختلط سؤال جدي عن إهدار المال العام متمثلا في ميزانية شركة مصر للاتصالات في الإنفاق على سفرهم وإقامتهم بآخَر تعسفي حول مسؤوليتهم عن الهزيمة، الأمر الذي صرف الأنظار عن بذاءة اتحاد الكرة، ليس فساده المالي والإداري وليس انعدام كفاءته فحسب.

مثلا: لكي يصادَر المبلغ المقرر من "فيفا" للإقامة والمصروفات يقيم الفريق في غروزني على حساب رمضان قديروف فيتورط نجمه الوحيد محمد صلاح في عشاء مع مجرم حرب.

مثلا: يشتري الاتحاد خمسة آلالف تذكرة مباراة تحت مسمى "أسر الأعضاء" يتضح لاحقا نيته بيعها في السوق السوداء هناك... لكن رسالة العتب والبراءة التي أطلقها الممثل شريف منير في فيديو آخر يوم 20 يونيو، مدافعا عن نفسه وعن فيفي عبده خصوصا، أغضبت من علقوا عليها وأبعدت السجال عن سؤالي الكفاءة والانضباط.

هناك مزيج عجيب من الهوس الدعائي والأداء الكارثي في ما يتعلق بالشأن العام. الشهر الماضي، صاحَبَ هذا المزيج سيرة هلالية جديدة اسمها مشاركة مصرية (غير) مشرفة في كأس العالم. لكنه - المزيج - هو ذاته "الدايناميك" الذي ولّد تاريخا كاملا من الهزائم العربية، أكثرها أعمق أثرا وأثقل وطأة بما لا يقاس. والآن كما في الحروب والانهيارات، سيستتبع توزُّع الدم على القبائل وأعراف المصالح التي تتصالح غيابا مطلقا للمساءلة.

أنا لا أظن الوضع سيختلف لو أمضينا ثلاثين سنة أخرى نسعى إلى التأهل لكأس العالم بلا جدوى ثم تحقق حلمنا ذات يوم. لا داعي للنواح بالتأكيد، ولا معنى لتعنيف جهة أو طرف على حساب أخرى. ربما لا ضرورة لمنح كرة القدم كل هذا الاهتمام في بلد لا يجيد ممارستها... لكن كيف يتعامل مصري لم يستطع أن يفرح مع صدمة البيان الأول؟


* كاتب مصري

المساهمون