صدر قديماً: "صفوة الاعتبار" لمحمد بيرم الخامس.. وصف تونس ومحيطها

05 مايو 2019
(باب السويقة في تونس العاصمة، 1899)
+ الخط -

من آباء النهضة المَنسِيين ورُوّادها المهمَّشين، مع أنَّ له باعاً طويلاً في الوعي الباكر بـ الظاهرة الاستعمارية وما جرَّته من تحوّلات كبرى طاولت العالم الإسلامي في نهاية القرن التاسعَ عشر.

ظُلِم في حياتِه وبعد الممات، محمد بيرم الخامس (1840 - 1889)، سليل البَيارمة الأتراك الذين قدموا إلى تونس مع فرق الجيش العثماني تحت قيادة سنان باشا لطرد الإسبان واستقرُّوا فيها منذ القرن السابع عشر، ونشروا فيها المذهبَ الحنفي، القائم على القياس والتعليل، توجُّهاً رسمياً للبايات، حُكّام تونس من 1705 إلى 1957.

تلقّى تعليماً زيتونيّاً متيناً امتزجت فيه العلوم اللغوية بالدينية، ثمّ أضاف إلى ثقافته حِذق الألسن الأجنبية، وغذّى جميعَها شغفٌ بالصحافة، وهي تساؤلٌ ومَتاعب، وولعٌ بالكتابة الأدبية، فكان المشرف على أول مَطبعة تونسية، أصدرت أول صحيفةٍ في الإيالة.

أسْعَفته مناصبه بِالسفر إلى أوروبا ثم إلى ديار السلطنة العثمانية، قبلَ أن يستقرّ في مصر حيث فارَق الحياة سنة 1889 تاركاً رصيداً من الكتب والرسائل الطريفة، لعلَّ أهمّها "صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار"، الواقع في خمسة أجزاء، تغطّي سيرةُ المؤلِّف بيرم المجلّدَ الأوّل منها، وخَصصَّ الثاني للقطر التونسي، كما كان يسمّيه إرضاءً للباب العالي. ويَليه "أحوال أهل الأرض"، و"الأقطار الإسلامية" في المجلّد الرابع. وجُعِل الأخير لوصف "الأقطار المسيحية".

وقد ضمّن هذه الأجزاء خلاصةَ رحلاته وتجاربه الذاتية، إلى جانب ما توافَر لديه من معلومات تتّصل بالماضي والحاضر، فكان بمثابة "شهادة مُوَثَّقة على العصر"، شملت بلداناً مثل تونس، وكانت حينها ولاية عثمانية، وفرنسا وإنكلترا وإيطاليا وهولندا، ودولةَ السلطنة العلية وعاصمتَها.

ولكنْ ما أصعب أن نُصنّفَ كتابَ "الصفوة"؛ ففيه من السيرة الذاتية مقاطع ساحرةٌ، وفيه من الجُغرافية الطبيعية والبشرية جفاف الأرقام والمقاييس، وفيه من الملاحظات الإثنيّة طلاوةُ الرموز الثقافية حين تتبدّى في عفويتها تُؤنسن العالمَ. وفيه أيضاً همٌّ إصلاحي كبير وإدراك لضرورة الانفتاح على الغَرب وعلومه القافزة، للاستفادة ممّا وصلت إليه آنذاكَ آليات الاقتصاد ومعجزات التقنية.

كان بيرم أكثر انفتاحاً من مُعاصريه الإصلاحيين، لعميق وعيه بحتمية التطوّر العلمي. ولكنْ لم تَفُته، في الوقت ذاته، آفاتُ الإمبريالية ومكائدها، إذ أدركَ سريعاً ما بين القوى العُظمى من الصراعات ورأى تكالبها على ولايات المغرب والمشرق الإسلامي للانقضاض عليها بذرائع واهية، مجندةً جيشاً من "اللجان" والقناصل والرُّسل، وكلهم لم يَذروا فرصةً إلا استَغلوها لبسط نفوذ الدول الأوروبية، في عز تمُدّدها.

بثَّ بيرم الخامس آراءه الإصلاحية ومواقفه السياسية الرافضة لذلك التمدّد طيَّ الوصف الجغرافي لطبيعة الأمصار التي زارَها ولتركيباتها البشرية التي اختبرها. واتبع الوصف المدعوم بالإحصاء أسلوباً ثابتاً في التحرير والتوثيق؛ فهو يتناول البلدَ بذكر خصائصه الطبيعية من حيث التضاريس والمناخ والنبات، وسماته البشرية كعدد السكان واللغات والأديان والملابس والمآكل السائدة في المدن والبوادي.

ولذلك كان كتاب "الصفوة" أشبه بالموسوعة، يرسمُ بالأرقام والجداول، وهذا من حادث الأساليب في التدوين، كلَّ ما يتعلق بالأقطار التي عاش فيها بيرم أو زارها خلال القرن التاسع عشر، مع تفصيل في عرض ما بينها من علاقات دبلوماسية ومظاهر السجال والتنافس إبّان مرحلة بناء العالم الجديد وتشييد قوى الاستعمار نفوذَها على أنقاض الخلافة العثمانية التي ظلّت تقاوم للحفاظ على ما تبقّى لها من حضورٍ رمزي.

كما تضمّن الكتاب العديد من الوثائق التاريخية النادرة والمراسلات الرسمية ونصوص القوانين واللوائح والاتفاقيات التجارية والقضائية التي صيغت في ذلك العصر. وربما تَمكّن من الحصول عليها بفضل مناصبه السياسية، فقد كان مشاركاً في صنع الأحداث. وهذا ما يجعل من "الصفوة" مصدراً أولياً في دراسة تلك الحِقبة، ولاسيما فيما يتعلّق بالقطر التونسي في علاقاته بجيرانه الأوروبيين وبالسلطنة العثمانية.

انتقد علماء الزيتونة، وهم في مَدارج الفصاحة صَفَويُّون، لغةَ الكتاب وما فيها من أسقام في التراكيب وركاكةٍ في العبارات. ولكن بعد هدأة الانتقادات، نجد أنّ لغة الكتاب جلية مفهومةٌ. ابتذالُها المزعوم يعود إلى تعلّقها بتفاصيل الحياة اليومية واستعادة العادات والتقاليد التي تَخص الناس في حِلّهم وترحالهم، في بداوتهم وحضارتهم. ومن الطبيعي أن تَتَجنّبَ، وهي مُنكبّة على المعيش التلقائي، صورَ البيان وبدائع البَلاغة.

من جهة أخرى، تضمّن الكتابُ بعضَ الاستطرادات الفقهية "اللذيذة"، يُذكِّر من خلالها بيرم، وهو سليل الفقهاء، ببعض الأحكام الفقهية حسب مذهبه الحنفي. وكان فيها متسامحاً منفتحاً، يجري على قاعدة: "الأصلُ في الأشياء الإباحةُ" في قبول مظاهر الحداثة كاللباس الإفرنجي والتدخين والمعاملات التجارية مع غير المسلمين.

"الاعتبار" هو ما أرادنا الكاتبُ أن نُدركه بواسطة كتابه هذا وما تضمّنه من وصفٍ لتحول الأزمان وتجاذب الأقطار. دعانا إلى التدبُّر في حركة التاريخ وصيرورة الأيام وقراءتها عبر تضارب المصالح، في حقبة دقيقة، تَهاوت فيها منظومة القرون الوسطى وحلّ محلها النظام الإمبريالي... تفكّكت "الخلافة" وهَجمت ماكينات الرأسمالية وبوارجها. وهي تحولات جديرة بـ"الاعتبار"، حتى في أيامنا هذه.

دلالات
المساهمون