صدر قديماً: "المرأة والعمل" لـ نبوية موسى

16 سبتمبر 2017
البوليس يقمع متظاهرات مصريات، يناير 1952
+ الخط -

خاضت نبوية موسى (1886-1951)، أول فتاة مصرية تحصل على البكالوريا في عام 1907، معارك كبرى لـ تحرير المرأة العربية من نير التسلّط الذكوري. وتحدَّت أسرتها ومجتمعها من أجل كسر التقاليد البالية التي تحول دون تثقيف المرأة وعملها.

فبعد تمكّنها من أدوات الكتابة والتفكير، شيّدت استراتيجية تقوم على الفعل الاجتماعي الملموس، لا على الأقوال الخطابية، لتغيير الواقع الراكد. وقامت خطتها على تحاشي الاستدلال بالنصوص الدينية، ليقينها من خسران معركة المقارعة النصية وتعرّضها للتهميش والتعنيف. وظل المصير القاسي الذي عرفه أستاذها قاسم أمين (1865-1908)، نتيجةَ جرأته، حاضراً نصب عينيها. وقد استعانت هذه المربية بشبكة مدارسها الخاصة ومناهجها التربوية، مثل "ثمرة الحياة في تعليم الفتاة"، فضلاً عن أعمدة الجرائد للدفاع عن مواقفها ونشرها في الرأي العام، ولا سيما صحيفة "الفتاة" التي أسستها بنفسها، و"الأهرام" و"البلاغ".

وفي سنة 1920، نشرت كتاب "المَرأة والعمل"، ولكنَّ هذا العنوان خادِعٌ، ولا يعكس مضمونَ الكتاب كاملاً، فهو لا يتطرق إلى عمل المرأة فحسب، بل إلى سائر الشروط الموضوعية التي تساعدها في التحرّر وتحقيق المساواة مع الرجل. فقد تناولت في هذا "البيان" سلسلة محاور تشكل رؤيتها للنهوض بالمرأة، ما يجعله يندرج ضمن أدبيات النهضة ومعارك التمدّن.

بيّنت موسى أولاً الصلات الوثيقة "بين وضعية المرأة، في أي مجتمعٍ، وتقدّم الأمم أو تخلفها"، وهو محور شائعٌ في أدبيات التحرر النسوي آنذاك، وسيستعيده كل من يكتب في الموضوع باعتبار أن المرأة هي المسؤولة الفعلية عن تنشئة الأبناء وتطوير مداركهم وبيدها مقاليد المجتمع وقيمه. وخصّصت جانباً من تأملاتها للمقارنة بين واقع المرأة العربية (ولا سيما المصرية) مع المرأة الغربية، وإظهار البون الشاسع الذي يفصلهما من حيث الثقافة والتعلّم ومدارك الذوق وحتى العلاقة بالجسد، ودافعت نبوية موسى عن ضرورة اللحاق بها مع التأكيد على ما يُشبه المُسَلَّمَة: لم يفضِ بالضرورة عمل الأوروبية ومشاركتها الرجل الثقافة والتعليم إلى الانحلال وتفسّخ الروابط الأسرية، في محاولةٍ لتفكيك الارتباط المتخيَّل بين حرية العلم والعمل والانهيار الأخلاقي للمرأة، وتشتت الأسرة بسببه.

وأما قضية السفور والحجاب فمعضلة لم تؤثر موسى طرحها، ولا الكتابة عنها، بل الفعل فيها والتأثير بالحركة الجريئة، إذ خلعت الحجابَ، وارتدت ربطة العنق، فقد كانت على يقين مسبق من أنها ستخسر المعركة الفكرية إن هي خاضتها بالنصوص، والسبب تناقص الأدلة النقلية وغموضها، وارتهانها بالقراءات الذكورية. ودافعت عن نظرية طريفة مفادها أنَّ حجاب المرأة ليس سوى حيائها، ومشاركتها في فعاليات الحركة الاجتماعية دون تبذّلٍ ولا انحلالٍ.

ودعت بعد ذلك - وهذا هو المحور الرابع في كتابها - إلى تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في كل الحقوق والواجبات، والمقصود بهذه المساواة آنئذٍ تمكينها من فُرص التثقف والعمل نفسها التي يتوفر عليها "شقيقها" الرجل، والسماح لها باستمراء ثمار هذه الفرص بعيداً عن الإقصاء والعنف اللذيْن لطالما تعرّضت لهما المرأة عبر العصور. ويتعلق المحوران الأخيران بضرورة تعليم المرأة وعملها في كل المجالات، بما يعنيه من السماح لها بالإسهام الفعلي في التنشئة الاجتماعية للأجيال الصاعدة، والارتقاء إلى أعلى المراتب الثقافية والمهنيَّة.

وقد اعتمدت نبوية موسى، في بناء هذا التصوّر التحرّري، على قراءة كلية للتاريخ، فقد بحثت في الفصل الأول من كتابها مثلاً، في وضع "المرأة في جَميع الأمم"، رغبة منها في إظهار كونية هذه المسألة، وحتى يتسنى لها إجراء مقارناتٍ بين المرأة العربية في بلادها وبين غيرها من النساء، في الثقافات المغايرة. كما بينت - في إطار هذه البرهنة - أنَّ الفروق بين الرجل والمرأة ليست بذلك الحجم المبالغ فيه، والذي يصوّره الرجل لغاية تحقير المرأة وسلبها إمكانية المشاركة الفعلية، وأضافت أنَّ الفروق الجسدية مجرّد تعلاتٍ يختلقها الرجال وبها يتلاعبون.

ومن جهةٍ ثانية، وهذا مَكمنُ الأصالة في استدلالها، اعتمدت القراءة الاجتماعية لتطوّر المجتمع المصري، فأكدت مثلاً "حاجة المجتمع المصري إلى طبيبات ومعلمات وخياطات..." بسبب الانفجار الديمغرافي، واستنتجت أنَّ توفير هذه الكفاءات لا يتم إلا بشرط وجود تعليمٍ متكاملٍ. وهاجمت، بهذا المنظور الاجتماعي نفسه، تخلّف العقليات وسخافة الخرافات التي تبث في عقول النساء مثل حفلات "الزار"، وهي شعائر راقصة لاستخراج الجن، ومثل المغالاة في المهور ومصاريف الأعراس.

وهكذا، يعكس "عمل المرأة" طبيعة المَراحل الأولى للنضال النسائي العربي وما وسمه من عفوية ومثالية وتهور، وقد تميّزت، مع ذلك، بذكاء استراتيجيتها المتمثلة في تحاشي النقاش الديني لقضية المرأة، وفي السير بمُخاطَبيها من الرجال، وجلّهم محافظون، إلى أرضية التمدّن الاجتماعي، وضرورة إقناعهم ليس فقط بإشراك المرأة فيه، بل اعتبارها الفاعل الرئيس لإحداثه. وظلت تتبع مرافعتها لتحرر المرأة بالأفعال الجريئة والنشاط الاجتماعي الثقافي الملموس، مثل إنشاء الجمعيات، ونشر الكتب والجرائد وبَعث المدارس... وقد نجحت خطتها في البرهنة، كما في الحراك الاجتماعي.

دلالات
المساهمون