صخب البرلمان التونسي

31 مارس 2018

جلسة في البرلمان التونسي (23/3/2018/فرانس برس)

+ الخط -
أعادت جلسات البرلمان التونسي أخيرا، المتعلقة بالتمديد لهيئة الحقيقة والكرامة، إلى الواجهة الصراع المحتدم بين أنصار المنظومة السياسية القديمة والقوى الصاعدة ما بعد ثورة 2011. وإذا كان الموضوع في ظاهره متعلقا بتفصيل قانوني، يخص الطرف الذي يملك الصلاحية لمنح الهيئة الحق في مواصلة نشاطها سنة إضافية، بعد استكمالها مدتها الأصلية، وعلى الرغم من أن المحكمة الإدارية أصدرت حكما واضحا ينص على أن الهيئة مخوّلة بالتمديد لنفسها، وفقا للفصل 18 من القانون الذي أُحدثت بمقتضاه، إلا أن ما جرى يكشف أن حالة التوافق الهش بين قوى النظام القديم وأحزاب ما بعد الثورة لم تكن سوى هدنة، أو هو في أحسن الأحوال تعايش بالإكراه. فقد جاء موقف رئيس مجلس نواب الشعب الذي يشكل امتدادا للمنظومة السياسية التي حكمت تونس زمن الاستبداد واضحا ومنحازا، بشكل معلن، ضد أي تمديد للهيئة، متسلحا في ذلك بنفوذه ومؤيديه من أتباع حزب نداء تونس، وربيبه المنشق عنه مشروع تونس، ونواب حزب صغير هو آفاق تونس، ليشكل حجر عثرة ضد تمرير أي قرار يمنح الهيئة حق مواصلة نشاطها، ورصد الاعتمادات المالية اللازمة لذلك. والحقيقة أن الهيئة، ومنذ تشكلها سنة 2013، ظلت موضوعا خلافيا، هي ورئيستها سهام بن سدرين، المعروفة بتوجهاتها الحقوقية الصارمة، ومعارضتها الشرسة لبنية النظام الاستبدادي في عهديه، البورقيبي وزمن بن علي، فقد انزعجت المنظومة الاستبدادية النافذة في تونس من الشهادات والجلسات العلنية التي قامت بها الهيئة في سنواتها الماضية، وكشفها عن تفاصيل تجاوزات حقوقية مرعبة، طاولت آلافا من التونسيين، منذ تشكل دولة الاستقلال بصورتها الحالية.
وتعتبر تجربة هيئة الحقيقة والكرامة التونسية حالة رائدة في تجارب العدالة الانتقالية التي شهدتها دول مختلفة، سواء جنوب أفريقيا أو المغرب أو غيرها، بالنظر إلى شمولها ثلاثة
جوانب أساسية، أولها الكشف عن خفايا الاستبداد السياسي والتجاوزات الأمنية زمن الاستبداد، وتعرية منظومة الفساد التي هيمنت على الدولة، وأخيرا محاولة وضع أسس تعويض ضحايا الاستبداد، وإحالة ملفات متورطين في قضايا التعذيب ممن رفضوا الاعتذار لضحاياهم وللشعب التونسي إلى القضاء. وقد أثارت هذه الجوانب على الهيئة ردود أفعال عنيفة ومتوترة من جهات مختلفة، سواء ممن لديهم ولاء مطلق لزمن الطغيان البورقيبي، وهؤلاء رفضوا ما اعتبروه تشويها لرمزية زعيمهم الملهم (بيان ما يُسمى ستين مؤرخا ممن احتجوا على الهيئة لكشفها عن تفاصيل اتفاقية الاستقلال الداخلي لتونس)، أو جهاتٍ أمنيةٍ ترفض محاسبة منتسبيها، وانتهاء بالمنظومة السياسية التي اشتغلت مع بن علي، والتي ما زالت متمسكة بتصورها للدولة بوصفها كيانا لا يمكن محاسبته أو مراجعة تجاوزاته في حق مواطنيه.
وعلى الرغم من تأكيد هيئة الحقيقة والكرامة على لسان رئيستها أنه ليس من مهامها "حفظ الأرشيف أو التأريخ"، وليست معنية بالتجاذبات السياسية الآنية، مؤكدة أنها "ستستكمل المسار وفقا للقانون الأساسي للعدالة الانتقالية"، ولتوجه الاتهام إلى من يريدون الرجوع بالبلاد إلى مربع الاستبداد، بمحاولة إجهاض عمل الهيئة، متسائلة عن بديلهم عن ذلك وفق قولها، غير أن هذا الموقف لا ينفي أن عمل الهيئة أثار حالةً من الصراع في المشهد السياسي المضطرب أصلا.
وبعيدا عن وضعية الهيئة في جانبها القانوني، فقد مثلت التجاذبات التي أثارتها حالةً من التوتر بين القوى المتحالفة سياسيا، وخصوصا بين حزبي النهضة ونداء تونس. ولهذا لم يكن مفاجئا أن يصرح رئيس "النهضة"، راشد الغنوشي، بأنه ضد التصريحات التي استهدفت رئيس الجمهورية، والتي سعت إلى توتير المشهد السياسي، في محاولة منه، على ما يبدو، للحفاظ على التحالف القائم بين حزبه وحزب رئيس الجمهورية، وهو ما ينبئ بمحاولة إيجاد اتفاق بين الطرفين لحل النزاع بشأن الهيئة، وفق توافقات معينة، اعتاد الرئيس الباجي السبسي والغنوشي على التوصل إليها.
وعلى الرغم من كل هذه الجلبة والصراعات والتجاذبات داخل مجلس نواب الشعب التونسي، لا يمكن تقييمها إلا من ناحية إيجابية، بمعنى أن الصراع السياسي ظل محصورا ضمن سياقه الطبيعي، وفي إطار المؤسسات الدستورية، بعيدا عن التحريض، أو تعبئة الشارع، أو حالات التصادم الأعمى، وهو أمر يُحسب لديمقراطية تونسية ناشئة، تتلمس خطواتها الأولى، وفي ظل محيط إقليمي يتراوح المشهد فيه بين حروب أهلية أو أنظمة استبدادية مغلقة، حيث يخيم على برلماناتها صمت القبور، ولا يسمع فيها سوى صدى التسبيح بحمد الحاكم واسمه، فمراحل الانتقال الديمقراطي تشهد هذه الصراعات والتجاذبات، قبل أن تستقر على صورتها الأكثر انسجاما، شرط أن يلتزم جميع الأطراف بشروط المبدأ الديمقراطي، وهو أن الفيصل بين التوجهات والبرامج المختلفة هو الصندوق الانتخابي، بصورته الأكثر شفافية ونزاهة.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.