صباح ومساء

24 ابريل 2017

(باسل المقوسي)

+ الخط -
إحساسٌ هائل بالتشفّي طغى على ملامح كاتب العدل، حيث رمتني أقداري البائسة إليه، دونا عن كتّاب العدل العشرين خلف الكاونترات، بانتظار أن يوزّع عليهم صوتٌ آلي محايد المراجعين المنتظرين بلهفة وقلة صبر، بحسب أرقامهم ونوعية معاملاتهم، قادني حظي السيئ إليه، كي يتأمل في المعاملة التي تحتاج إلى تصديقه بكل الحقد الممكن، باحثا عن ثغرةٍ ما تبيح له عرقلة كل ما قمت به من إجراءات، ليدفع الأوراق في وجهي، قائلا من دون أن يترك السيجارة المشتعلة من يده: "ما بيمشي الحال. عليك العودة إلى دائرة الأراضي وإحضار كذا وكذا" .. يا رجل. ألم أكن هنا صباحا، وأنت من أعطاني النموذج، لماذا لم تخبرني أني بحاجة إلى كذا وكذا أيضا؟.. سحب نفساً عميقاً من سيجارته، وأجاب بجلافة: أنت لم تسألي، هذه ليست مشكلتي.
تخيّلتني لوهلة في فيلم عربي من الثمانينيات، تقوم ببطولته نبيلة عبيد مثلا، وإن ما يجري معي لا يمكن أن ينتسب إلى هذا الزمن وهذا المكان تحديدا، حيث قصر العدل. قلت: لا، هذا مجرد مشهد درامي مبالغٌ فيه. القصد منه هجاء البيروقراطية المعشّشة في المؤسسات مثل وباء، وإثارة حنق المشاهد تعاطفاً مع البطلة المسكينة التي تعرّضت للمرمطة الممنهجة، لمجرّد حاجتها إلى إصدار وثيقةٍ ما. أخذت نفساً عميقاً في محاولةٍ للتحكّم بالغضب الذي تملكّني: قلت له بهدوء مفتعل: أنت ترتكب مخالفةً صريحة للأحكام والقوانين والتعليمات الواضحة التي تمنع التدخين في الأماكن العامة، وترتب عقوبات على مرتكبها. ضحك حتى ظهرت أسنانه المنخورة الصفراء، وقال، باستخفاف كبير: روحي اشكيني للوزير بالمرّة.. وسحب نفساً آخر، متأهباً لتلويع مراجع جديد.
طرقت باب مدير الدائرة بعصبية، لكي أشكو له وقاحة الموظف، واستخفافه بالتعليمات. وسرعان ما خرجت، ولم أنبس بكلمة، فسعادة المدير كان على وشك إشعال سيجارته، وعامل البوفيه يضع فنجان قهوة وكأس ماء بجانب منفضة طافحة بالسجائر. غادرت، وقد سيطر عليّ إحساسٌ كبير بالغبن وقلة الحيلة والغضب، لعدم قدرتي على التصدّي لهذا المقدار من الاستخفاف. وعدت نفسي بالعودة في شهر رمضان، فقط كي أمارس بعض الشماتة عليهم، حين يتحولون إلى خرق بالية عصبية، يصبّون على الآخرين جام جوعهم وعطشهم واضطراب أعصابهم، نتيجة انسحاب النيكوتين من أجسادهم المترهّلة الكسولة.
لم يكن في نيتي تنفيذ الفكرة. كانت نوعاً من التعويض النفسي، ابتدعه عقلي، انتقاما لمشاعر القهر التي تعرّضت لها. قلت لنفسي باستسلام إن هذا اليوم ليس لي. عليّ أن أعتزل القوم، كما أفعل كلما سيطرت علي مشاعر الكآبة والضجر. ألوذ بفضاء البيت، أفرغ طاقتي السلبية بالاستماع إلى الموسيقى ومشاهدة الأفلام. أوشكت على نسيان ما كان من أمر صباحي غير المشرق المشحون المتوتر، غير أن طرقاتٍ عنيفة على الباب في المساء حالت دون التمتع بعزلتي التي أحب.
ظهرت جارتي باكيةً شعثاء الشعر، متورمة العينين، رثّة المظهر على غير عادتها. وحيث لا تربطني بها صداقة وثيقة، تبيح لي التدخل في الخصوصيات، تملكّني الحرج، ولا سيما حين لحقها زوجها يرتدي شبشباً بلاستيكياً، حاملا طفلته الصغيرة، متوسلا إليها العودة إلى البيت بلا فضائح. كان صعباً أن أظلّ على وقفتي البلهاء، عاجزةً عن التصرّف، حرّكت ميكانيزمات الاكتراث بمشكلات الآخرين، وقلت: تفضلوا يا جماعة خير انشالله.
انهارت بالبكاء وهي تصرخ: لا أريد رؤيته الخائن. أخفى مفتاح سيارتي كي لا أذهب إلى بيت أهلي. قلت بلهجةٍ تدّعي الاتّزان: خلاص جار، عد أنت والصغيرة إلى البيت، ريثما تهدأ.. أعددتُ لها فنجاناً من القهوة. أشعلت الجارة المخدوعة سجائر كثيرة، أفسدت فيه صفاء الجو النقيّ الذي أنعم به. ذكّرتني بمشواري غير المبهج إلى قصر العدل، غير أنه كان صعبا، إزاء سوْرة غضبها، أن أشرع، كعادتي المملة، بالحديث عن مضارّ التدخين، وهي تسرد اكتشافها رسائل ماجنة، يتبادلها زوجها غير المصون مع امرأة مستهترة على "واتس أب"، وأن هذه ليست المرة الأولى، وأنها سوف تخلعه بدون أسف. غادرت بعد أن أجهزت على علبة سجائر وفناجين قهوة كثيرة. وكان أن هدأت أعصابها تماما، فيما ثارت ثائرتي من جديد، وأنا أستعيد ابتسامة كاتب العدل بأسنانه المنخورة الصفراء.
دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.