يفقد شارع الحمرا في بيروت صالاته السينمائية. تاريخيًا، يمتلك الشارع حصّته من خريطة الصالات البيروتية، قبل أن تُقفل أبوابها فيه عامًا تلو آخر. التجربة القديمة زاخرة بمحطّات وتفاصيل، لكنها غير موثّقة أو مكتوبة إلّا قليلاً.
"يا فؤادي ـ سيرة سينمائية عن صالات بيروت" (1996، دار النهار للنشر) لمحمد سويد مثلٌ لسردٍ حكائيّ توثيقي. منذ سنين مديدة، يعيش الشارع فراغًا مدوّيًا لفقدانه تلك الصالات كلّها، ولأسبابٍ كثيرة أخرى أيضًا. بعض تلك الصالات مُتحوّل إلى محلاّت تجارية. بعضها الآخر مُغلق، تعيش فيه أشباحُ ماضٍ مُحمَّل بسحرٍ معطوب وجمال مرتبك، وتُعشِّش فيه أساطير ذكريات عتيقة. لا أحد مهتمّ أو مُكترث. الصالات تتبدّل، كالشوارع والمدن والبشر، والتبدلات لن تكون كلّها إيجابية. حداثة الصالة السينمائية غير متلائمة مع شارع الحمرا، فالحداثة محتاجة إلى مجمّعاتٍ كبيرة وقاعات عديدة وأفلام كثيرة، وإنْ يغِب عنها المشاهدون، غالبًا. شارع الحمرا ليس هكذا.
"يا فؤادي ـ سيرة سينمائية عن صالات بيروت" (1996، دار النهار للنشر) لمحمد سويد مثلٌ لسردٍ حكائيّ توثيقي. منذ سنين مديدة، يعيش الشارع فراغًا مدوّيًا لفقدانه تلك الصالات كلّها، ولأسبابٍ كثيرة أخرى أيضًا. بعض تلك الصالات مُتحوّل إلى محلاّت تجارية. بعضها الآخر مُغلق، تعيش فيه أشباحُ ماضٍ مُحمَّل بسحرٍ معطوب وجمال مرتبك، وتُعشِّش فيه أساطير ذكريات عتيقة. لا أحد مهتمّ أو مُكترث. الصالات تتبدّل، كالشوارع والمدن والبشر، والتبدلات لن تكون كلّها إيجابية. حداثة الصالة السينمائية غير متلائمة مع شارع الحمرا، فالحداثة محتاجة إلى مجمّعاتٍ كبيرة وقاعات عديدة وأفلام كثيرة، وإنْ يغِب عنها المشاهدون، غالبًا. شارع الحمرا ليس هكذا.
هذا ليس تفصيلًا. مآزق شارع الحمرا كثيرة. صورته القديمة مندثرة، كصورة البلد وناسه. تاريخه مُعطّل، كالبلد وناسه. راهنه موبوء بفسادٍ وتمزّقات وفوضى، كالبلد وناسه. صالاته المقفلة حيّز لغبار وصمت، والصمت تعبيرٌ عن موتٍ لا عن بوح. الزحام نفسه غير متمكّن من إحيائه، إذْ يبدو كأنه موتٌ غير مُعلن لشارع ومدينة، كما لبلد وأناس. فقدان الشارع صالاته السينمائية تام ونهائيّ. "مسرح المدينة" ("سينما سارولا" سابقًا) عاجز عن ترتيب أوضاعه، رغم أعمالٍ يُقدّمها للمسرح والغناء والموسيقى والرقص، بتجهيزاتٍ تحتاج إلى تأهيل. لكن لا سينما فيه إلّا نادرًا وعابرًا. "مترو المدينة" ("صالة متروبوليس" سابقًا) اختبار حيوي مختلف لفنون واشتغالات، لكن اهتماماته غير سينمائية، إلاّ قليلاً وعابرًا.
أكثر من 10 صالات في شارع واحد، بعضها قائم في متفرّعات عنه. هذا كلّه مختفٍ، كاختفاء معنى المدينة ومغزى وجودها. هجرة الصالات منه، في تسعينيات القرن الـ20، شبيهة بحدثٍ تعرفه ساحة البرج قبل اندلاع الحرب الأهلية. الفرق أن صالات تُفتح حينها في شارع الحمرا من دون أن تفقد الساحة صالاتها. الانتقال إلى الشارع، بدءًا من صالة "سينما الحمرا" نهاية خمسينيات القرن المنصرم، مطلب اجتماعي اقتصادي لن يؤثّر سلبًا على حيوية ساحة البرج. صالات الحمرا مقفلة لا منتقلة، رغم أن موزّعين وأصحاب صالات يُدركون، منتصف التسعينيات الماضية، أنّ الانتقال حتميّ، وأنّ الشارع آيل إلى زوالٍ سينمائيّ، وأنّ المهنة محتاجة إلى أمكنة جديدة. صمود صالاتٍ فيه غير مُثمر إيجابيًا. الباقون غير مقتنعين بحداثةٍ تطال المهنة، فيخسرون كلّ شيء، تدريجيًا.
مُصيبة شارع الحمرا أنّ صالاته مقفلة، والانتقال منه إلى أمكنة أخرى قليلٌ للغاية. التجاري الاستهلاكي يلتهم الشارع. الخواء ضاربٌ بقوّة. المأزق أوسع من شارعٍ يفقد صالاته، فالصالات السينمائية تنتشر هنا وهناك، لكن بعضها القليل جاذبٌ لجمهور لا لمُشاهدين يعثرون على مُرادهم في صالة واحدة ("صالة متروبوليس"، الأشرفية) غالبًا، أو عبر قرصنة ومواقع إلكترونية متخصّصة، بينما الجمهور مهموم بالتجاريّ الاستهلاكيّ غالبًا. الصالات، إنْ تشأ حيوية ونبضًا وعيشًا، غير مكتفية بعروض الأفلام، فللمهرجانات قدرة على تفعيل حيوية وبلورة نبض وتحسين عيش، وهذا مفقودٌ في شارع الحمرا.
مناقشة مسألة كهذه غير متمكّنة من تبديل حال شارعٍ يتداعى كلّ شيء فيه. مسؤولية فقدان الشارع لصالاته السينمائية موزّعة على كثيرين، إذْ تسود الرغبة في إعمارٍ مُشوّه لمدينة معطوبة، والتحاق جشع بالتجاريّ الاستهلاكي. وحشية المال طاغية. البلد برمّته سوق استهلاكية. مناكفات وانشقاقات تغلب كلّ شيء أيضًا.
الشارع يضمحلّ. المدينة تكتئب. البلد يختفي. الناس مُسيَّرون بنظامٍ يرتكز على الطائفيّ والمذهبيّ والقبائليّ، ولهذا النظام أولويات تُغيِّب كلّ همّ مرتبط بفنّ أو ثقافة، بل بحياةٍ أعدل وأشرف.