صادق خان .. المواطنة مرة أخرى

13 مايو 2016
+ الخط -
ضمن حزمة أخبار نهاية الأسبوع الماضي، ثمة ما هو غير قابل للتجاهل، صادق خان يفوز بعمودية لندن. في الخبر سيرة "عادية" عن مسار الشاب الذي سيلتحق يافعاً بحزب العمال، يدرس الحقوق، ليصبح محامياً متخصّصاً في حقوق الإنسان، ويجد نفسه نائباً عمالياً في مجلس العموم، ثم وزيراً في حكومة غوردن براون، وصولاً إلى شغله منصب وزير العدل في حكومة الظل التي شكلها إيد مليباند الذي كان صادق خان مدير حملته الانتخابية للفوز برئاسة الحزب.
في التفاصيل، نتعرف أكثر على والده الذي هاجر من باكستان، لسياقة الباص في لندن، ونتلصص على حياته الصغيرة، طفولته البسيطة في جنوب العاصمة، عشقه نادي ليفربول، ممارسته للرياضة، شغفه بالعائلة، هوايات ابنتيه، ثم لا بد أننا سننتبه، بذهولٍ كثير، نحن المهووسون بالهوية، إلى أن صاحبنا مسلم الديانة.
مسلم على رأس بلدية لندن، ليس ثمّة سر في الحكاية. هي فقط ثمار تاريخ طويل لفكرة المواطنة. المواطنة التي جعلت أميركياً أسود يحكم البيت الأبيض، ومنحت ريفياً اسمه بوطالب مفاتيح روتردام.
المواطنة التي تعني العلاقة مع الدولة عندما تنبني على القانون. المواطنة انتماءً مدنياً للمجموعة الوطنية. المواطنة مساواةً في الحقوق والمسؤوليات. المواطنة التي لا تعيقها الاختلافات في الديانة واللسان واللون والطبقة والجنس.
كان على ساكنة لندن، مصادفةً، الاختيار بين مرشحيْن اثنين، مسلم ويهودي. الأصح أن الاختيار كان بين مواطنيْن اثنين، وبين حزبيْن غريمين، وبين رؤيتين للعاصمة. إنها الديمقراطية الغربية، وهي تقدم تمريناً على تجاوز الاعتبارات الدينية والإثنية، تمرين ليس بالسهولة التي نتصوّر، ذلك أن الحداثة الغربية لم تقطع نهائياً مع انفلاتات التعصب الديني والهوياتي، على النحو الذي يقدمه اليمين المتطرف، أو يعبّر عنه بصفاقة المرشح المحتمل لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب.
عموماً، سنستعيد كثيراً اسم العمدة اللندني الجديد، وسنشعر حتماً بقربٍ حميميٍّ من رنينه الخاص. لكن، في الواقع سيصعب أن نحوّل هذا الاسم إلى اللغة العربية. تفصلنا عن ذلك ثورةٌ ثقافية، تبدو بعيدة جداً. وسط معاركنا الطاحنة، المواطنة تختنق تحت وطأة الهويات القاتلة، والطائفية تغتال الانتماء الوطني، مذاهب ضد مذاهب، وانتماءات ضد أخرى، "الإخوان المسلمون" ضد السلفيين، السنّة ضد الشيعة، المؤمنون ضد الذين بلا اعتقاد. عرب وأكراد وأمازيغيون يتنافسون على تعريفٍ مختصرٍ للوطن، ومن فرط الحماسة، يفشلون في امتحان العيش المشترك.
ليست المواطنة بنداً بليغاً في الدستور، ولا أمراً يُحسم بمرسوم. هي ليست، للأسف، مجرد مدونة حقوق، ولا مسألة قانون ونصوص وشكلانيات، إنها قضية ثقافة ووعي. في محاضرة لعبدالله العروي أواخر عام 2014، في موضوع "المواطنة والمساهمة والمجاورة"، سيعتبر صاحب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" أن بناء المواطنة يحتاج إلى مقدماتٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وأخلاقيةٍ وعقائديةٍ، إنْ وجدت، نعم إنْ وجدت، قد نتصوّر إمكانية تجسيد مفهومها، ولو على مراحل.
سيختم العروي محاضرته الغنية بجُمْلةٍ تكثف، ربما، جزءاً أساسياً من مشروعه الفكري، وليس فقط قراءته للمواطنة، عندما يقول "لا حق بدون وعي".
نعم، الوعي أصل الحكاية وجذر التاريخ.
هو الوعي من جعل صادق خان عمدة مدينة الضباب، وليست صناديق الانتخاب. ليست الصناديق لعبة سحرية للسفر في التاريخ، لتنقلنا من مجتمعات الطوائف والقبائل والرعايا إلى زمن المواطنة.
(كاتب مغربي)


2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي