في فيلمها القصير الأول، "طابق رقم 4" (2019، 7 دقائق)، تضع المخرجة الفلسطينية الشابّة شيماء عواودة المرأة على جرح المجتمعات العربية ونمطيّتها الموروثة من أزمنة خلت، عبر سرد سينمائي لقصة طالبة جامعية، تثور على العادات، وتُقرّر الاستقرار في منزل لوحدها. لكنها ـ باختيارها هذه الطريق الصعبة، نظراً إلى طبيعة المجتمع المُقيمة فيه ـ تُصاب بالإحباط بسبب "عنف" الناس إزاءها من أول يومٍ لها، أثناء نقلها أغراضها إلى منزلها الجديد في الطابق الرابع، قبل أنْ تتخلّى عن المصعد مستخدمةً الدرج، الذي لا تعتبره المخرجة استسلاماً للمرأة ونضالها اليومي في المجتمعات العربية، بل بداية حقيقية لتحقيق حلمٍ وتكريس ثقافة مغايرة عن المرأة وأهميتها، بوصفها ذات حرة في اختيار ما تطمح إليه وما يُناسبها، وفق اختيارات حياتية، لا تستطيع العادات الأسرية التي ترعرعت في حضنها أنْ تحدّ من حريتها.
عن مشروع أفلام "أحبّ بيت لحم"، الذي أُنجز الفيلم ضمنه، وعن آفاقه الجمالية والتخييلية، تحدّثت عواودة إلى "العربي الجديد".
فيلمك الأول، "طابق رقم 4"، مُنجزٌ ضمن مشروع "أحبّ بيت لحم"، الذي تُشرف عليه "دار الكلمة الجامعية للفنون والثقافة". ماذا عن هذا المشروع السينمائي، الذي قادك إلى الاشتغال على أول تجربة لك في مجال الإخراج؟
بدأتُ دراستي في الأفلام الوثائقية، وأكملت درجة البكالوريوس في التصوير السينمائي. أثناء ذلك، كانت هناك مادة إخراج فيلم روائي قصير. الفكرة مرعبة نوعاً ما. فكّرت أنْ يكون موضوع الفيلم قريباً من حياتي الشخصية، فربما يكون أسهل. لكنْ لم يكن كذلك أبداً، فعندما قرّرت وضع نفسي أمامي لـ"محاكمتها" عبر الصورة، تبيّنت لي الصعوبة، لأنّ التفاصيل مُشوّهة في البداية، وعليّ أنْ أجهد في ترميم ما أحمله من قيمٍ وأفكار في صورة أحاول أن أرضى عنها. لكن لا وصول إلى رضى كامل، بل إلى نوع من هدنة مع الذات. لذلك، عند انتهاء كلّ عمل، يظهر نقصٌ آخر يحتاج إلى عمل، وإلى صورة جديدة تحتاج إلى ترميم. هكذا، بشكل متتابع، أحاول في كلّ مرة العمل بها كأنّي أمام تجربتي الأولى، بالإحساس والرغبة نفسيهما.
كمخرجة شابة، كيف تنظرين إلى هذا المشروع، الذي بدأت معالمه السينمائية والجمالية وتأثيراته تتبدّى جيداً في السينما الفلسطينية الجديدة؟
أنظر إلى هذا الفيلم كبداية جيّدة لي، إذْ رسم لي طريقاً، أدركتُ أنّها ستكون بلا نهاية. ورغم أنّ الطريق بدأت بفيلم قصير وبسيط، حاولتُ أنْ أعكس به ما حصلت عليه ممّا تعلّمته في الأكاديمية. إلا أنّني شعرتُ أنّ هذه التجربة يجب أن تكون أعمق، لأنّ العمل ببساطته أحدث تأثيراً إيجابياً عند متلقّين، انعكس رضى على شعوري الشخصي. لكنّه رضى ليس بمستوى العمل، فعندما نُصبح على مسافة زمنية من العمل الأول، نستطيع امتلاك نظرةٍ نقدية إزاء ما قدّمناه، ومُحفّزٍ لتطوير الرؤية والرسالة اللتين أودّ طرحهما. هذا يؤدّي إلى تطوير أدواتي وتقنياتي، ويدفعني إلى البحث عن عناصر تأثير أكبر تُثري تجربة السينما الفلسطينية. المعالم الجمالية لأيّ عمل تظلّ نسبية، وتعتمد أساساً على قدرة المخرج على تطوير السيناريو للتأثير المتجدّد في الزمن. لذلك، بعد شعوري بأنّي قادرة على عكس تلك العناصر في عملي الأول، وبأنّ أشخاصاً عديدين تأثّروا بطرح الفيلم، انعكس هذا على حياتي الشخصية، وأصبحتُ أمتلك حافزاً قوياً للاستمرار في الإخراج.
كيف جاءتك فكرة الفيلم؟ كيف تشكلّت ملامحها الأنطولوجيّة في مُخيّلتك قبل الشروع في وضع المعالم الأولية للإخراج، ولنقل النصّ إلى صُوَر؟
الفكرة جزء منّي. مهما حاولتُ أنْ أكون محايدة، لا أستطيع التبرؤ من نقلها عبر وسيط أستخدمه للتعبير عنّي، أي أنْ أتمثّل في ما أنتجته مداركي المكتسبة في حياتي الاجتماعية والسياسية. المحدّدات الأنطولوجيّة دائرة وجودي الذاتي وسط ما أعيش. رؤيتي الوجودية وكيفية التعامل معها تنتجان رؤية جمالية خاصة.
أساساً، انبنت فكرة الفيلم على حوارات ومَشاهد حقيقية حصلت معي عندما قررت السكن لوحدي أثناء دراستي الجامعية. الصراع الذي خضته على المستوى الذاتي في المكان والزمان أسّس أفكاراً وصوراً وسيناريوهات، فكّرتُ بها مراراً، بناء على خيارات تفرض نفسها في دائرة الصراع. لذلك، قرّرت تحويل هذا المجتمع الى مكانٍ مغلق، بناء على بصرية الصورة المرتسمة في تجربتي. اخترت المصعد أداةَ إيصالٍ للفكرة في رمزية خياراتٍ ضمن المتاح والممكن.
يحكي الفيلم قصّة طالبة جامعية تقرّر السكن وحدها، فتُصاب في أول يوم لها بنظرات مخيفة من الناس. تُقرّر نقل أغراضها مستخدمة درج المبنى. ألا يُمثّل هذا استسلاماً للبطلة إزاء مجتمعها؟
استخدامها الدرج لا يعني استسلاماً. إنّه رمز للبداية، والبداية متجدّدة دائماً، لأنّها مرهونة بالمستويات. الانتقال من مستوى إلى آخر يحتاج إلى بداية جديدة، وهذا لا يكون نجاحاً تاماً، لكنّه حتماً لا يعني استسلاماً. الفتاة مقبلة على الحياة رغم اصطدامها بمواقف كثيرة استنفدت طاقتها كثيراً، ما أدّى إلى استنزافها. لذلك، فإنّ خيار المواجهة أو الحلول السريعة التي نلجأ إليها يؤدي إلى نتائج ذات تأثير قصير المدى، والطرق القصيرة مزدحمة وغير عقلانية. لذلك، قامت فكرة الفيلم على التعقّل والابتعاد عن مواجهة صدامية محكومٌ عليها بالفشل.
في صراعنا مع القيم الراسخة للمجتمع، المتوافقة مع رؤيته العامة، علينا ألا نكون صداميين بقدر ما نكون عقلانيين، للتمكّن من تحقيق خطوات مدروسة وراسخة. خيار الفتاة للطريق الطويلة بداية جديدة لتجنّب الدرب القصير وازدحامه. ربما يُفهم من هذا أنّه هروب، لكنّه لا يعني استسلاماً أبداً.
يبدو عنوان الفيلم (طابق رقم 4) أشبه بجحيم أرضي للحياة. المسافة بين الأرض والطابق الرابع تبدو بعيدة، وتوحي بأشياء كثيرة مرتبطة بالمرأة وحريتها. ألا يضمر ذلك خطاباً احتجاجياً عن حقّ المرأة في الثورة على التقاليد، وإمكانية استقرارها وحدها بعيداً عن الأهل؟
يوحي العنوان بالاستقلال من دون ترسيخ أي مسافة بين المرأة والمجتمع. فرغم ما تعانيه بسبب قيم بالية للمجتمع، تظلّ المرأة جزءاً لا يتجزأ منه، ونجاحها مرتبط بمدى تمكّنها من ترك أثر لا يرتبط بقدرتها على تغيير السائد، بل على الحفاظ على ما تملكه من قيم وأفكار وأهداف. مجازياً، يعني الطابق الرابع استقلالية وصعوداً إلى الذات. هذا احتجاج مبطّن، فالاستقلال والحفاظ على الذات خطاب مرسل يتضمّن ضرورة ترسيم حدود بين الذات وقداستها والقيم المحيطة التي تفرض نفسها علينا بشكل مباشر. محاولة العيش باستقلالية أحد أشكال صراع الحدود هذا، لذا فالمؤكّد أنّ ثورة المرأة تكمن في قدرتها على الحصول على حدّ أدنى من استقلالها، وهذا غير متعلّق بالمكان (ريف أو مدينة أو أي مكان آخر)، لأن الخطاب الجمعي واحد على مستوى المجتمع المحلي. عدم احترام الخصوصية عامة يؤدّي إلى مواجهة، ترتقي بالذات إلى الأعلى، صعوداً الى الطابق الرابع أو العاشر.
يتميّز الفيلم بسرد بسيط ومعالجة سينمائية ترتكز أساساً على الصورة وقدرة الممثلين على إبراز المشاهد وتبيان قصّته وقضيته. بماذا يُفسّر هذا الحضور الخافت للحوار؟
تحمل الصورة خطاباً متعدّد الملامح. إنّها العنصر الأقوى في فرز تأثير حقيقي عند المتلقي. الحوار يساهم في حمل وجهة نظر واحدة، لا تفرز تفاعلاً عند المُشاهدين. لذا، اعتمدت على بناء صورة قادرة على مخاطبة الجمهور المتنوّع، فالصورة تحمل سمات إنسانية لا تكذب، وتؤثّر على الجميع في بيئاتٍ متنوعة. فكرة الفيلم بحدّ ذاتها فرضت ذلك، فمواجهة الفتاة مع الناس في الواقع تُبنى غالباً على إيحاءات أكثر منها على حوار. إيحاءات صامتة تحيط بالفتاة وتخنقها، وهذا يحدث، فمراقبة الناس ونظراتهم تحدث في مجتمعاتنا فعلياً، وكلّ كلام وتعليق وتدخّلات في حياتها تحدث فوراً، عندما تكون غير مواجهة، كمشهد الدرج وصعوده وسماع كلام الجيران. لذا، نقلت هذا بالصورة لأحاكي ما يحدث واقعياً.
المخرج الفلسطيني مجدي العمري أشرف على فيلمك. أفلام أخرى للجيل الجديد حقّقت نجاحات في السينما العربيّة، كفيلم وسام الجعفري "أمبيانس". ماذا عن التعامل معه؟ كيف أثّر بك، وبمسار الفيلم وصنع جماليّاته؟
منذ بداية كتابة السيناريو، كان العمري معي، ورافقني خطوة خطوة، تعديلاً وإعادة كتابة و"ديكوباج" و"ستوري بورد" وتفاصيل ما قبل الإنتاج. عند التصوير، كنتُ وحدي مع فريق العمل. كان هذا تحدّياً كبيراً لي، فهذا أول فيلم أًنجزه. شعرتُ بأهمية التحضير والإخراج على الورق، وبعد انتهاء التصوير وبدء مرحلة المونتاج، كانت ملاحظاته مهمّة في كلّ نسخة، وفي كيفية التعامل مع المادة. بالنسبة إلى الجماليات، أثرها متأتٍ من أفلامٍ كثيرة شاهدناها وناقشناها معه في المحاضرات الدراسية.
ختاماً، ما هي مشاريعك المقبلة؟
أنا الآن في مرحلة تطوير سيناريو فيلم روائي قصير (كرمة)، منبثق من قصّة شخصية: عائلة فلسطينية تُقيم في قرية صغيرة أثناء الانتفاضة الثانية. تُجهّز الأم كعكة عيد الميلاد العاشر لابنتها كرمة، لكنّ العائلة تفاجأ، منتصف الليل، باقتحام الجيش الإسرائيلي المحتلّ لمنزلها، لجعله برج مراقبة للقرية، فتُحتجز العائلة كلّها في غرفة واحدة، محاولة "تهريب" الكعكة إلى الغرفة نفسها للاحتفال بالعيد.