شهر مع داعش.. الرعب بتقنية HD

24 اغسطس 2014
لقطة من الوثائقي
+ الخط -

استطاع الصحافي الفلسطيني مدين ديريه، مراسل شبكة Vice News الأميركية، الدخول إلى مدينة الرقة السورية بعد تحوّلها إلى عاصمة "الخلافة الإسلامية" لتنظيم داعش "الدولة الإسلامية في العراق والشام".

جولات دورية استمرت قرابة شهر كامل، قام بها ديريه المقيم في العاصمة البريطانية لندن، وأنجز خلالها لقاءات مع قيادات وشخصيات بارزة في تنظيم داعش كما رصد بعدسة كاميرته طبيعة الحياة الجديدة في جوانبها المختلفة، ليحوّلها لاحقاً إلى فيلم تسجيلي، حمل عنوان "الخلافة الإسلامية" عُرضت أجزاؤه الخمسة على موقع الشبكة التي تتخذ من مدينة نيويورك مقراً لها. وبغض النظر عن جوانب استشراقية في تغطية موضوعات "التطرف الإسلامي" إلا أن الشريط يظل وثيقة على شيء من التفصيل حول الرعب الداعشي. 

البداية كانت مع المسؤول الإعلامي لتنظيم داعش، أبو موسى، الذي اصطحب مخرج الفيلم في زيارة خاطفة إلى خطوط التماس والمواجهة التي تفصل مقاتلي داعش عن الفرقة 17 التابعة للجيش السوري النظامي. المشاهد التي صورت قبل سقوط مقر الفرقة، أظهرت طبيعة القتال وخطورته. المسافة الفاصلة بين طرفي القتال قدِّرت بنحو 400 متر فقط. أصوات طلقات القناص سمعت بشكل واضح وهي تستهدف أبو موسى وضيفه الصحفي.

حمل المسؤول الإعلامي سلاحه مع مرافقيه بشكل استعراضي أمام الكاميرا، وأطلقوا بعض الأعيرة النارية تجاه عدوهم، قبل أن يوجه أبو موسى رسالة تحذير ووعيد، وهو يرتدي نظارة الـ"ريبان" الشمسية مطالباً "القوات الأميركية بالقتال على الأرض كالرجال، لا أن يأتونا بطيارات دون طيار. الخلافة الإسلامية قامت، وبإذن الله سنرفع راية لا إله إلا الله فوق البيت الأبيض" متجاهلاً أن من يقاتلهم في الطرف الآخر، هم عرب ومسلمون، وأعداء أيضاً "للطاغوت الأميركي" بحسب وصفه.

مشاهد دموية صوّرت بدقة عالية، ربما تكون هي الأولى من نوعها، أظهرت جثث 15 عنصراً من جيش النظام السوري ذُبحوا وقطعت رؤوسهم وعلّقت على سور حديقة وسط مدينة الرقة، بعد سقوط مقر الفرقة 17. هكذا أعلنت داعش عن نصرها الذي تريد منه أيضاً بث أجواء الرعب والخوف في "دولة الخلافة" حديثة العهد. هذا ما أكده اختيار مخرج الشريط مشاهد من خطاب مسجّل للخليفة أبو بكر البغدادي، ألحقها بمشاهد من مبايعة البغدادي في المساجد والساحات العامة.

الجزء الثاني من الفيلم صوّر على ضفاف نهر الفرات ونرى فيه أطفالاً يلهون في المياه الضحلة، بعدما قطعت تركيا مياه النهر الحيوية، التي تعتبر الرافد الأساسي لمياه الشرب وتوليد الطاقة الكهربائية. يتوعد أبو موسى الحكومة التركية "المرتدة بالغزو وفتح المياه من إسطنبول نفسها". يصل إلى المكان أبو عبد الله البلجيكي، نسبة لقدومه من بلجيكا وانضمامه إلى المجاهدين في دولة "الخلافة الإسلامية". يسأل الداعية الإسلامي طفله عبد الله صاحب الثمانية أعوام: "ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر، مجاهداً أم تقوم بعملية استشهادية؟" يظهر الطفل حيرة وارتباكاً أمام الكاميرا، لكن تلقين والده الفرح بنضوج أبنه المبكر يسعفه في الخروج من المأزق "أريد أن أصبح مجاهداً".

يوضح أحد قادة تنظيم داعش عن خطط "دولة الخلافة" لجيل المستقبل: "الأطفال تحت سن الـ 15 يلتحقون بمعسكرات تعلّمهم القرآن وأصول الدين والرماية من البنادق الآلية. أما اليافعين فوق سن الـ 16 فيتبعون معسكرات تدريب قتالي على مختلف الأسلحة، لامتلاك الخبرة والجاهزية للمشاركة في المعارك".

ينقلنا مخرج الشريط إلى أجواء احتفالات رمضان، في إحدى الخيم التي أقيمت بعد إعلان قيام الخلافة الإسلامية. أطفال ومراهقون يحملون الكلاشينكوف ويلوحون برايات تنظيم داعش السوداء، وهم ينشدون ملء أصواتهم أناشيد "جهادية" تدعوا إلى قتل الكفار والمرتدين والنصارى. يتوسط ساحة الاحتفال "مُجاهد" مسنّ حاملاً سلاحه الناري وسكينه. يبدو من لهجته أنه قدم من إحدى دول المغرب العربي. يخبر الجمهور المحتشد أنه عاش في أوروبا قرابة 25 عاماً "لكنني تركت الحياة الرغيدة والنساء الجميلات لألتحق بأرض العزة والجهاد والراحة النفسية". يهلل الحضور لاختياره الصائب بالتكبير ومبايعة الخليفة البغدادي مرات عدة.

الجزء الثالث من الشريط يكشف لنا النظام الاجتماعي حديث العهد الذي تعمل "دولة الخلافة" على إرساء دعائمه في عاصمتها. أبو عبيدة مسؤول رفيع المستوى في نظام "الحسبة" أو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" يقوم بجولات تفقدية على الأسواق التجارية والشوارع والأزقة لمتابعة شؤون العامة، وحصر "المخالفات الشرعية"، وسَوْق مرتكبيها إلى السجن، وتطبيق "حدود الله" عليهم.

يرافقه مخرج الشريط في رحلته فيضبط رجلاً برفقة زوجته المنقّبة في أحد الشوارع لأن عباءتها مرتفعة عن الأرض قليلاً. يكتفي هذه المرة بتحذير الزوج بعدم إبراز مفاتن زوجته للعامة! "نحن ندعو إلى تطبيق شرع الله بالحسنى، لكن من لا يمتثل للتحذير والدعوى، نطبق شرع الله عليه بالقوة" يقول أبو عبيدة الذي يصحبنا معه إلى داخل أحد سجون داعش.

هنا تصعد ملامح من الكوميديا السوداء إلى السطح. سجناء أُحضروا إلى السجن بتهم مختلفة. أحدهم ضبط رجال "الحسبة" خموراً في منزله. الآخر رجل مسنّ ينتظر مع أصحابه تطبيق حد الجلد بحقه فرحاً: "لا شيء أجمل من التوبة والعودة إلى الحق على يد رجالات دولة الخلافة" يقول. أحد السجناء ضُبط وهو يتعاطى المخدرات، يخبرنا وهو يحاول منع نفسه من الضحك أمام الكاميرا: "لا شيء أجمل من أن تعلن توبتك في عقر دار دولة الخلافة"، قاصداً السجن. "أنتظر خروجي من السجن بفارغ الصبر لأعلن بيعتي لخليفتنا أبو بكر البغدادي".

ندخل إلى دار الفتوى والقضاء. خصصت الدولة الداعشية عدداً من قضاة مختصين لفض النزاعات، كما هي الحال مع أبو عبد الله القاضي المعني بمتابعة "شؤون وقضايا أهل الذمة"، والمقصود بهم "النصارى" الذين فضلوا "دفع الجزية على دخول الإسلام أو الحرب معنا" حسب تعبيره.

في خلفية المشاهد تبرز نقاط جديرة بالاهتمام. كل شيء يسير بدقة وهدوء. الكهرباء متوافرة بكثرة. جباية أموال الزكاة تتم بالعملة السورية، وصورة حافظ الأسد تبدو بوضوح على ورقة الألف ليرة سورية في يدي جابي أموال الزكاة! مشاهد للكنيسة الكاثوليكية الأرمنية، حطّم عناصر تنظيم داعش صليبها الذي "كان يُعبد من دون الله، وحوّلنا المكان إلى مكتب دعوي لنشر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف" كما يقول المسؤول عن المكان.

لا فائدة من دفع النصارى الجزية إذاً. كنائس كثيرة ومقامات لأئمة الشيعة دُمّرت جميعها، ووثّق هذا التدمير بالصورة التي عرضها الشريط سريعاً. مشاهد مؤلمة لنزوح الآلاف من الأسر المسيحية ومن الطائفة الأيزيدية الهاربة من بطش دولة "الخلافة الإسلامية"، دمجها مخرج العمل مع مشاهد أخرى لاحتفالات عناصر من داعش بنصرهم الكبير، وهم يزيلون السواتر الترابية والحدود بين العراق وسوريا مع صرخات تكبيرهم، لتشكّل هذه الصورة المتناقضة نهاية مفتوحة لأكثر جرائم العصر الحديث قبحاً ودموية.

المساهمون