لم تغيّر بلوزتها الزهرية. تركت دماء ولدِها عليها وعلى وجهها. لماذا تغسلها بالمياه وتُزيل ما بقي لها من ضناها؟ "الضنا غالي". ليست عبارة كليشيه. ألم تسمعوا عن قلوب أمهات تحترق؟ لا تصدّقونها ربّما لأنّه لا يخرج من أجسادهنّ دخان أسود. هنّ يُحوّلن الحرقة إلى دموع ونحيب وألم. الآه التي تخرق الآذان مثل آلة حادة. تضرب أم داني صدرها: "يا إمّي ليه عملت هيك (لماذا فعلت هكذا)؟". لم يعد داني هنا ليجيبها. لو أنّ روحه ترجع قليلاً لتسأله بعض الأسئلة، وتودّعه، قبل أن يذهب إلى المكان الجديد الذي اختاره. لا، بل المكان الذي دُفع إليه دفعاً.
يوماً ما، كانت له أحلام. لم تُسرق فقط بل مُعست تحت أقدام الكبار. تشمّ رائحة دمائه على جسدها. كانت معه لحظة ولادته ولحظة موته. ما كلّ هذه القسوة؟ لو أنها تعصر تلك البلوزة وتضع الدماء في جسده مجدداً فيستفيق. لو أنّ ولده ناداه في تلك اللحظة المشؤومة. أي شيء. أي حدث يعطّل ذلك الوجع الذي لم يحتمله دماغه وقلبه في لحظة ما. تركهم جميعاً في وجع إضافي. فقير هو ولم يستطع توريث أطفاله غير الوجع. أما هو، فسيعيش بعيداً عن بلدٍ دفعه للفظ كرامته منذ اللحظة الأولى، وأخضعه لمذلّة تلو الأخرى.
وقبل داني أبي حيدر، كان ناجي الفليطي (ديسمبر/ كانون الأول الجاري)، وجورج زريق (فبراير/ شباط 2019). أتصدقون أن زريق أحرق نفسه؟ لا يمكن أن يكون ذلك حقيقياً، بل هي النار التي في قلبه امتدّت إلى جسده فاحترق. هذه هي الحقيقة. الفقر لا يأتي وحيداً، بل يجرّ معه أوجاعاً ومذلة وخوفاً وغضباً. ثمّ يأتي من يتدخّل بأرواح البشر، ويُطلق الأحكام. انتحروا تاركين خلفهم عائلاتهم. كم هم أنانيون! ثمّ إن هذه الخطوة ليست بريئة تماماً. أحكامٌ وأحكامٌ ترقى إلى مستوى "الكلام الفاضي". هل أصبح هؤلاء خبراء في الأرواح؟ أيعرفون معنى الانتحار؟ الوجع؟ لحظات ما قبل الانتحار؟ أقلّه، فليتركوا لهم الموت بسلام، وبلا تعليقاتهم المزعجة. بعد كل ما عانوه في الحياة، يحتاجون إلى موت هادئ، لا يكسره غير صرخات أمهاتهم لأنّها حبّ خالص، وقليل من الورود.
داني أب لثلاثة أطفال وزوجته مريضة. قرّر التخلّص من حياته بعدما أبلغوه بحسم من راتبه في العمل. عادي؟ الحسم مسألة عادية؟ ربّما. وبالنسبة إلى فقير؟ إنها نكبة. "قصة موت معلن" كما كتب غابريال غارسيا ماركيز عنواناً لإحدى رواياته. أخذ بندقية صيد يملكها وأطلق النار على رأسه أول من أمس، ليلقى حتفه على مرأى من والديه المسنّين اللذين يقطنان معه. وما زال ناجي الفليطي (40 عاماً) في البال. ناجي من بلدة عرسال (في البقاع الشمالي)، متزوج ووالد لبنت وصبي، أنهى حياته شنقاً بحبل قبل أيام أيضاً. قيل إن السبب هو عدم قدرته على دفع مصروف الجيب لابنته. وإذا كان ذلك صحيحاً، فهذه كانت الطلقة الأخيرة... طلقة ما قبل الموت المعلن. قبل ذلك، كان قد توقف عن العمل في مناشر الحجر الذي كان يدرّ عليه دخلاً بسيطاً لا يتجاوز 20 دولاراً في اليوم. وزوجته مريضة سرطان ولا جهة ضامنة تغطيها، فكان يضطر إلى دفع أجرة المستشفى أسبوعياً. هل ارتكب جريمة؟ ماذا يظن أولئك الذين يصنّفون أنفسهم حكاماً على البشر. لقد ارتكب ألماً. وكان وجعه هو الجريمة الأكبر. وجورج زريق، الذي انتحر حرقاً وقضى متأثراً بحروقه الشديدة، كان قد عجز عن سداد أقساط مدرسة ابنته المتراكمة.
ثلاثة شهداء بسبب وطن جشع، يستحقّون تمثالاً "كي لا ننسى". الوجع الذي نحمله لا يكفي. يجب أن نجمع أوجاعنا وأوجاع الناس. لم نعد مجرّد أفراد، بل صرنا جماعة وشعبا. أصبحنا وجعاً لا يُجزّأ.
علمياً، "الانتحار هو عملية قتل النفس نتيجة الاكتئاب الشديد والوجع (صدمات عاطفية، ظروف اجتماعية، إلخ)، والتي تلعب دور المحفّز، إضافة إلى أمراض نفسية أخرى"، بحسب "، بحسب الدكتور زاهر كريّم، الاختصاصي في علم النفس العيادي والأستاذ الجامعي وأحد أعضاء "مايند" (mind) التي تقدم خدمات نفسية للأطفال والمراهقين والبالغين وكبار السن، وجمعية إدراك (مركز الأبحاث وتطوير العلاج التطبيقي). يوضح أنه استناداً إلى معظم الدراسات العالمية، فإنّ 80 إلى 90 في المائة من حالات الانتحار ترتبط بالأمراض نفسية، يضاف إليها صعوبات الحياة التي قد تدفع بالأشخاص إلى شفير الهاوية. كما يشير إلى أن الناس ذوو القطبين (bipolar) أو الذين يعانون من الاكتئاب قد يلجؤون إلى المخدرات أو الكحول نتيجة ما يُكابدونه من وجع، الأمر الذي قد يؤدي إلى "اتخاذ قرارات سريعة" مثل الانتحار.
مشكلة أخرى يعاني منها الأفراد في لبنان وهي الوصمة الاجتماعية، على عكس الغرب الذي يتحدث عن الانتحار بسهولة، حيث يعمل المعنيون فيه على زيادة التوعية حتى في المدارس للتخفيف من الشعور بالعار، يقول كريّم. ويُثني على جمعية "embrace" (احتضان) التي أطلقت الخط الساخن 1564، والذي يقدّم الدعم العاطفي والمساعدة في محاولة لمنع الانتحار، خصوصاً أنها تساهم في كسر الهوة بين الشرق والغرب، وتكريس الحديث عن الأمر بشكل طبيعي، إضافة إلى المساهمة في زيادة التوعية. وعمّا إذا كان هناك فرق بين المرأة والرجل، يقول كريّم إن المرأة تحاول الانتحار أكثر من الرجل بمرة ونصف إلى مرتين. وعلى العكس من ذلك، تنجح محاولات الرجال أكثر من المرأة. وللأمر أسباب عدة؛ فالرجال هم نتيجة ثقافة المجتمع، ويملك كثيرون أسلحة عادة ما تقتل في حال استخدامها خلال محاولة الانتحار. أما المرأة فتلجأ إلى أساليب أخرى كتناول الأدوية. والمشكلة، على حدّ قوله، هي أن الرجال في لبنان بشكل عام، ونتيجة ثقافة المجتمع، لا يُسمح لهم بالبكاء أو التعبير عن ضعفهم (علماً أن ذلك مفيد للصحة النفسية) وإن كانوا في حاجة إلى ذلك، وبالتالي يحملون الوجع طويلاً، ما قد يدفعهم إلى الانتحار. بينما المرأة أكثر تعبيراً، لكن المفارقة أنها أكثر اكتئاباً من الرجل بنسبة الضعفين.
وفي الانهيار الاقتصادي الواقع حالياً، يتحدّث كريّم عن أن أزمة كهذه تتحوّل إلى محفّز للانتحار للأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب والأمراض النفسية الأخرى ورواتبهم قليلة والضغوط عليهم كثيرة، عدا عن أن الرجل في لبنان عليه مسؤوليات أكثر من المرأة، ومطلوب منه إطعام وإعالة أسرته. كل ما سبق يزيد الضغط على "كرامته" كإنسان، خصوصاً إذا ما طرد من عمله (على سبيل المثال)، فيخسر هدفه في الحياة ويصبح أكثر يأساً. بموازاة ذلك، زادت نسبة القلق في لبنان نتيجة الواقع. "الناس يُهدّدون بسبب أموال مترتبة عليهم علماً أنهم عاجزون عن تسديدها، ما يزيد من شعورهم بالمذلة. وبالتالي، فإن حالة اليأس والوجع تؤدي إلى الانتحار". والوتيرة صارت أسرع نتيجة الانهيار وغياب العدالة الاجتماعية، بحسب كريّم. والفقير بطبيعة الحال أكثر تأثراً، لأنه قد يصل إلى مرحلة يعجز فيها عن تأمين الطعام، فيشعر بأنه خسر كرامته.
من جهة أخرى، فإن "التهديد" بين الناس وغياب الإنسانية بمعنى التكافل بين الناس، يزيد من إحساس الإنسان بأنه رخيص. ويؤكد كريّم أن الانتحار ليس فعلاً أنانياً بل هو نتيجة العجز واليأس. ويشدد على أهمية "الإصغاء الفعّال" للمساعدة. "كمعالجين وأطباء نفسيين، ندرك أن الإنسان يمر بمطبات نفسية وعاطفية في الحياة قد تدفعه إلى الانتحار، علماً أنها مرحليّة. لذلك، يساعد العلاج النفسي والخط الساخن في تأمين الإصغاء وإنقاذ الحياة". ولدى سؤاله عمّا إذا كان يتوقع ارتفاع نسبة الانتحار خلال الأيام المقبلة نتيجة ما تمر به البلاد، يقول كريّم: "إنه لأمر محزن أن أجيب على سؤال كهذا. لكن الوضع الاقتصادي يتدهور. والخلاصة أن البلد مريض وحزين، مما يؤثر على الأشخاص المصابين بالاكتئاب وقد يؤدي إلى زيادة الأمراض النفسية والحزن، وبالتالي يصير الأشخاص أكثر قابلية للانتحار".
من جهة أخرى، يحكي عن تأثير ما يحدث على الناس بشكل عام، وتحديداً على الجهاز العصبي، إذ إن الغضب في الشارع والصدمات تؤدي إلى تغيرات في الدماغ، وبالتالي استرجاع ذكرياتنا المؤلمة (منها المتعلقة بمرحلة الحرب الأهلية) الموجودة في منطقة في الدماغ تسمى "الحُصَين" (hippocampus). كما أن هناك تأثيرا على "لوزة المخيخ" (amygdala)، وتكون النتيجة سرعة في اتخاذ القرارات إضافة إلى زيادة الانفعالات العاطفية. "الخلاصة أننا في حالة طوارئ". وفي ظلّ عدم الإصغاء الفعال من المعنيين لأوجاع الناس في الشارع، يتوقع كريّم ارتفاع نسبة اليأس والاحباط الجماعي. "واقع كهذا يجعلني أسأل نفسي: من هو العاقل؟".
وبالعودة إلى embrace، تقول المديرة التنفيذية ليا زينون، تعليقاً على انتحار الرجال الثلاثة: "لا نستطيع القول إنّ نسبة الانتحار ترتفع من جراء الأزمة الاقتصادية، وإن كانت تؤدي إلى زيادة الضغوط"، لافتة في الوقت نفسه إلى أن حالات الانتحار صارت تخرج أكثر إلى العلن". وتشير إلى أن نحو 90 في المائة من حالات الانتحار هي نتيجة اضطرابات نفسية أو بيولوجية، تضاف إليها الضغوط الاقتصادية والسياسية. وفي الوقت نفسه، زادت نسبة المتصلين بالخط الساخن. ومثالاً على ذلك، توضح زينون أنه "خلال ثلاث ساعات، تلقينا 25 اتصالاً، منهم 4 كانوا مقبلين على الانتحار، والآخرون يطلبون الدعم النفسي وأمورا أخرى، لنحيلهم إلى مراكز أخرى". وتؤكّد أن الدعم يُساهم في الوقاية من الانتحار، خصوصاً أن المعالجين النفسيين، وبعد التعرف على قصة المريض، والأمور التي تجعله متمسكاً بالحياة، والتفاصيل التي تفرحه أو تضايقه، تضع مع المتصل خطة عمل تساعده على إيجاد بدائل".
صحيح أن للأشخاص حريتهم في اتخاذ أي قرار، إلا أن الراغب في الانتحار يريد وضع حد لوجعه وظروفه وليس حياته. من هنا تأتي أهمية الدعم، بحسب زينون.
في المقابل، يختلف علم الاجتماع عن علم النفس في تفسير ما يحدث. تقول الأستاذة الجامعية والباحثة في علم الاجتماع هيفاء سلام إن حالات الانتحار التي يشهدها لبنان هي انعكاس للوضع الاقتصادي والاجتماعي، ولم نشهد سابقاً وضعاً مماثلاً أو ظاهرة مماثلة في فترة زمنية محددة وقصيرة. واللافت أن هذه الظاهرة تحدث في مجتمع محافظ ومتدين، ما يشير إلى تراجع الرادع الديني. وتشرح أنه في الإجمال، ندرس الانتحار من خلال الأفراد، ولما يحدث جذور اقتصادية واجتماعية. والبرهان على تحوّل الانتحار إلى ظاهرة اجتماعية هو ارتباطها بفترة زمنية قصيرة جداً. وتشرح أن بعض الناس الفقراء ازدادوا فقراً. حتى أن أفراد العائلة الواحدة لم يعودوا قادرين على مساعدة بعضهم البعض. وهناك خوف من تفاقم هذه الحالات في ظل غياب الرادع واستمرار الظروف التي تدفع الناس إلى التطرف.
تضيف سلام أن الانتحار قد يكون أنانياً. وبحسب الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، الانتحار الأناني هو عندما يكون ارتباط الفرد بالجماعة ارتباطاً ضعيفاً يبدو الفرد فاقدًا لتأثير الجماعة عليه، وبالتالي لا يُعير أي اهتمام لجماعته إذا ما ساوره أي ميل للانتحار بسبب بعض المشاكل الطارئة، كما أنه في هذه الحالة لا يعتقد بأن انتحاره سيرتب أي نتائج على الجماعة، أي أنه يرغب فقط في أن يرتاح. بعض الأرقام لا تشير إلى خطر كبير.
يقول رئيس مركز الدولية للمعلومات جواد عدرا، في تغريدة على "تويتر"، إن متوسط عدد حالات الانتحار سنوياً من 2004 إلى 2007 بلغ 60 حالة، وارتفع إلى 103 حالات في 2008، ووصل إلى 111 حالة عام 2013، و128 حالة عام 2016، و143 حالة عام 2017، و155 حالة عام 2018، و105 حالات حتى سبتمبر/ أيلول الماضي. في الوقت نفسه، يلفت إلى أن لبنان يحتل المرتبة 160 من أصل 183 في ما يتعلق بالانتحار.
ربّما الأكثر خطورة من الانتحار هو الوجع الذي يحمله كثيرون في قلوبهم. وهذا يستحقّ حداداً وطنياً، علّ مارداً يخرج من قمقمه ويحقّق الحد الأدنى للناس الذين يذبحهم الألم يوماً بعد يوم. وكما كتب أحدهم على "فيسبوك": "لم يعد الموت مرعباً. هذه الحياة أشد رعباً".