تلك القطعة المصنفة بالجماد المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بلحظات الفراق والوداع .. ما من شنطة سفر يتمّ تجهيزها وترتيبها إلاّ ووراءها ما يتبعها .. مازال محفوراً فى الذاكرة شنطة السفر التى أحضرتها لي أمي بعد فضّ رابعة بأيام معدودة .. وقت أن غادرنا الوطن ولم نعلم إلى أين الوجهة .. كل ما يسيطر علينا حينها أن تلك الديار لم تعد لنا .. وأن المعركة المفروضة علينا لم نتخذّ لأنفسنا المرتقى الصحيح بها .. والوطن ما عاد إلاّ سرادق عزاء كبير نتقبل فيه التعازي في النبلاء وفي الجوار تَمتَمات التّسبيح بحمد الطاغية .. مشهد هوليوودي بامتياز قرية تحوّل أهلها بين عشية وضحاها الى مصاصي دماء .. إلى راقصين على أعتاب السلطان..
نعود إلى "شنطة السفر" حيث أنّها مازالت معيبَة لا تستطيع أن تُلملم شتات أنفسنا أو أن تحمل بين طيّاتها قدراً من ذكرياتنا هناك في الشوارع والأزقّة .. أفراحنا وأتراحنا .. لم تستطعْ ضمّ الثياب التى تعتّق بها دمّ الشهيد .. وكمّ من شهيد لم تستوعب حقائبنا ذكرياته ومقتنياته؟ الشنطة التى تغادر الحدود لا يسمح لها بذلك ولم تستطعْ.. فمازال أمامها عقبة التفتيش وإن بدا على ملامح الحقيبة أيّ أثرٍ لضحايا المذبحة ستجلب لصاحبها الويلات .. وربّما ذلك سبباً كافياً لأن يُحرم من مُفارقة الوطن .. شنطة السفر التى حملتها منذ قرابة العشرين شهراً ما زال حملُها ثقيل .. والمشوار يبُعد أكثر ممّا تخيلت .. يقال بأنّ "الذين يسافرون يتغيّرون.. تتغيّر نظرتهم للحياة.. تتغيّر فكرتهم عن الرفاهية.. عن رائحة الهواء.. عن معنى الراحة.. وربّما عن الانتماء". قد يصيبنا شيئاً من هذا أما شنطة السفر فهى مصونة من ذلك لطالما كانت رفيقة دَرب .. فسرعان ما يطمئنّ القلب ويسكنْ إذا ما طرق الحارس باب زنزانتك في منتصف الليل معلناً وصولها .. هي إشارة .. نعم وصولها كان إشارة على أنّنا مازلنا في عِداد الأحياء .. ومازال هناك اتصال بيننا وبينهم .. شنطة سفر الشهيد التي كنت موكلاً بتسليمها الى أهله .. كانت هي الذكرى المُتبقية من عزيز لم يضن بنفسه وروحه من أجل مبادئه التى حملها بين ضلوعه، وأفكاره التي تحرّرت ورفضت أن تظلّ حبيسة جدران عقله .. هي ذات الشنطة التي تصحب المطارَد والمُهاجِر والمعتقَل .. هى التي تتنقّل بين صالات الوصول والسفر في المطارات، فلا عجب أن يصير الانتماء أقرب لحقيبة السفر من انتماء لأرضٍ وتراب وحدود لا تُبقي للإنسان ذكرى .. ولا تحفظ له حقاً .. أو تصون له حياة .. تمرّ الأيام و نملأ الحقيبة -كما اعتادت وكما تعوّدنا- قد نملأها بالأشياء ذاتها في كل مرّة لكن يختلف المقصد وتختلف الوُجهة، غيرَ أنّ ديدن الحقائب أن تمتلىء بأشياء مادية فانية مصيرها الى الزوال أمّا عن ما لا تستطيع حمله .. فيكون على عاتق قلب مُثقل بالفقد فأصبح فارغاً كفؤاد أم موسى! أن يحمل ما لا تحمله الحقائب.
فى بعض الأوقات نتمنى أن نتبادل الصفات بيينا وبينها.. فلا نحمل عبء سفر أو رحلة.. ولا نهتم إذا كان الطريق ممهداً أو شاقاً نتجول بين الأماكن بلا عوائق أو حدود.
أغلب الظن أننا لم نستطيع التعاطي مع مفردات الحياة.. الناجون من المذبحة والمعاصرون للأحداث التى نمرّ بها فقدوا الكثير من رغبتهم في الحياة.. وكلّ ذا قيمة يفقد قيمته. لم يتبقَ سوى قلب مثقل يحاول الصمود يدرك أن الموت والحياة سواء وأنّ كل شيء بقدرٍ فلن يُجدي الهروب من الذكرى ولن يفلح النسيان ومازال القلب يتشبّث بأنفاس معدوداتٍ تيمّناً بيوم يزأر فيه الزأرة الأخيرة .. يرافق بها من رحلوا ومن غادروا هذه الحياة بصمت ونمضي من سفرٍ إلى سفرٍ لنؤمن أكثر بقول الرسول المعلّم :" كُنْ في الدنيا كأنّك غريبٌ أو عابرُ سبيل".
(مصر)