شعوبنا والمقاومة السلمية

09 نوفمبر 2019
+ الخط -
كانت المقاومة السلمية في كل الدول التي قامت فيها ثورات شعبية، في العصر الحديث، إحدى الوسائل الناجحة ضد الأنظمة التي تثور الشعوب ضدها. وسواء كانت الثورات مطلبية سياسية أو مطلبية اجتماعية واقتصادية، عرفت الشعوب كيف تخترع وسائل جديدة للمقاومة، شعبية لا عنفية، تكون بمثابة الرد الحضاري على همجية الأنظمة وتعسّفها، وليس غاندي أو مانديلا (قبل تحوله إلى الكفاح المسلح) سوى سيرتين من سير كثيرة للشعوب التي اعتمدت المقاومة السلمية في نضالاتها من أجل تحرّرها أو استقلالها أو حقوقها. الأمثلة على ذلك كثيرة جدا، وتتفوق في تحضرها وابتكارها لما فعله غاندي ومانديلا، إذ كان الكفاح السلمي مرتبطا بشعوب أكثر من ارتباطه بأفراد، هو التاريخ فقط الذي يعرف كيف يمجّد الأفراد، ويكتب سيرهم ويقدّمهم أبطالا، والتاريخ يحب الأفراد الأبطال، ويحب نمذجتهم، بينما تصنع الشعوب حياتها من دون أن تلقي بالا للنماذج إلا في القصص والحكايا الشعبية وكتب التاريخ. 
وقارئ سير المقاومة السلمية سوف يدهشه أنها ظهرت في بلدان العالم الثالث، البلدان التي ينظر إليها تلك النظرة النمطية: أن شعوبها متخلفة وغرائزية، ولا تصلح لأن تحكم بغير الاستبداد، ولا تليق بها الديمقراطية والنظم الحديثة العلمانية، وأي حركة تغييرية في مجتمعاتها سوف تكون كارثية، لأن شعوب هذه البلدان سوف تتحول إلى وحوش، ما أن تتراجع قبضة الدولة الأمنية عنها، غير أن الثورات في هذه الدول أثبتت بطلان هذه النظرة، إذ قدمت شعوبها أمثلة رائعة عن آليات التغيير والاحتجاج والكفاح السلمي اللاعنفي، في وقتٍ تظهر صورة الاحتجاجات الشعبية المطلبية في دول العالم الأول مفاجئة، إذ لا يتورّع المحتجون عن الحرق والتكسير والنهب وممارسة أعمال الشغب المتاحة. رأينا هذا في معظم دول أوروبا التي تظاهرت شعوبها في احتجاجات مطلبية، أو سياسية في سعي بعض الشعوب إلى الانفصال. وتقابل الحكومات الغربية هذه الاحتجاجات بأقل العنف المتاح لها، كانتشار شرطة مكافحة الشغب، واستخدام خراطيم المياه، ووضع الحواجز الأمنية لمنع المحتجّين من التعرّض للأماكن العامة. ومع ذلك، يستمر المحتجون في سلوكهم، وقد يتعرّض بعضهم لاعتقال قصير.
تقدّم شعوبنا العربية اليوم (لبنان والعراق والجزائر وتونس) ومثلها (تشيلي وتاهيتي وإثيوبيا)، في موجة الربيع العربي الجديدة، نماذج مذهلة عن حراك الشعوب السلمي وكفاحها في سبيل إعادة صياغة مجتمعاتها وبناء دول حديثة على أسس العدالة الاجتماعية والديمقراطية والحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين جميعا، بعيدا عن أي انتماء خارج عن الانتماء الوطني والإنساني، نابذةً كل ما كرّسته الأنظمة الحاكمة من انتماءات مذهبية وقبلية وعرقية، مطالبة الأنظمة بالرحيل (كلّن يعني كلّن)، ذاكرة كل ما تسببت به هذه الأنظمة من إفقار للبلاد والشعوب، ومن إقصاء وتهميش وخراب عام طاول كل شيء. وعلى الرغم من أنها لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه المظاهرات والاعتصامات العارمة، لجأت الأنظمة إلى استخدام العنف والتهديد والوعيد، ومحالة جر أنصارها للوقوف في وجه الثورات، ضمن أساليب هذه الأنظمة في اختراع الحروب الأهلية لتحافظ على بقائها، إلا أن الموجة الجديدة من الثورات تشهد أيضا عنفا أمنيا سلطويا أقل بكثير من عنف أنظمة الثورات الأولى للربيع العربي. وهنا أستعيد سؤال مثقف مصري صديق: ماذا لو أتيح للسوريين أن يقيموا اعتصامات مشابهة لما يحدث في لبنان مثلا، هل كان مسار الثورة السورية سيختلف عما هو عليه الآن؟
ما شهده السوريون من عنف وإجرام لم تشهده أيٌّ من دول الربيع العربي، مع أن الأشهر الأولى من الثورة كانت حافلة بالتضال السلمي. وابتكر الشباب السوري وسائل للنضال غير مسبوقة، واطلعوا على نضالات الشعوب وحاولوا تطبيقها، غير أن العنف كان أشد هولا وفظاعة مما تخيّل أحد، ليس عنف النظام فقط، بل حتى تنمّر كثيرين ممن ما زالوا يشتمون عسكرة الثورة لاحقا، هؤلاء الذين أعلنوا احتجاجهم على طلب العصيان المدني، معتبرينه إسقاطا للدولة لا للنظام، على الرغم من أنه لا توجد دولة في سورية بل نظام، ونسبوا أية ظاهرة نضال سلمي إلى الشيخ العرعور أو الإخوان المسلمين، في محاولات إبعاد الشارع السوري الذي يخشى الإسلاميين عن الثورة، وليتمكّن النظام من جرّها إلى ملعبه: التسليح والأسلمة والتطييف، وهو ما حدث بعد أن فتك النظام بالرعيلين الأول والثاني من الثوار، اعتقالا وتهجيرا وقتلا.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.