01 نوفمبر 2024
شعر سوري في إيدنكوبن
كيف يمكن أن يترجم الشعر إلى لغةٍ أخرى، إذا كان المترجمون لا يعرفون شيئاً عن اللغة التي كُتب بها النص الشعري؟ يبدو أن هذا السؤال كان هاجس ورشة (جيران) في مدينة إيدنكوبن في ألمانيا، وهي ورشةٌ سنويةٌ بدأت منذ ثلاثين عاماً، وتسعى إلى استضافة شعراء من الدول القريبة من ألمانيا جغرافياً، دول (الجيران) من غير الناطقين باللغة الألمانية، مع شعراء ألمان، يترجمون قصائد للشعراء الضيوف إلى الألمانية، أما كيف يتم هذا، فهو هدف الورشة على ما يبدو، حيث تتم ترجمة النصوص والقصائد ترجمةً حرفيةً، قبل تحويلها إلى الشعراء الألمان، لإعادة صياغتها شعرياً، بحيث يبدو النص الشعري كأنه خُلق من جديد، خصوصاً أن ثمة نصوصاً يتولى إعادة صياغتها أكثر من شاعر، إذ يرسل الشعراء الضيوف خمسة عشر نصاً، تتم ترجمة كلها ترجمة حرفية، وتُعطى للشعراء الألمان الذين يختارون منها ما يناسب ذوائقهم، ويعيدون صياغتها.
هذا الاختيار هو اختبار للنصوص المرسلة بقدر ما هو اختبار لفهم ذائقة كل شاعر ألماني على حدة، إذ قد يتم اختيار نصٍّ واحد لشاعر ضيفٍ من أكثر من شاعر مضيف، يعيد صياغته، ما يعني إنتاج قراءات وصياغات عديدة للنص الواحد، تختلف من شاعر صائغ إلى آخر. وقد يطاول الاختلاف حتى عناوين القصائد والنصوص، إذا ما كانت عناوين طويلة أو قابلة للتأويل، وهو ما نراه غالباً في الشعر المترجم إلى العربية من أكثر من مترجم. وأوضح مثالٍ على ذلك قصيدة للشاعر الفرنسي أيف بونفوا، قُدّمت بترجمتين إلى العربية، واحدة من أدونيس الذي قدّمها بعنوان "في خديعة العتبة"، والثانية من بول شاوول بعنوان "في وهم العتبة". الفرق بين الوهم والخديعة كبير، الوهم يصنعه المرء بنفسه لنفسه، بينما الخديعة يمارسها الآخرون على الشخص.
يكشف هذا الاختلاف في صياغة العنوان الواحد الفرق بين لغتي الشاعرين أدونيس وشاوول، كما يكشف الفرق بين علاقتهما باللغة الفرنسية، لغة القصيدة الأصلية، وهي لغةٌ يتمكّن منها الشاعران جيداً، على عكس ما يحدث في ورشة (جيران)، حيث غالباً ثمّة وسيطٌ محايدٌ للترجمة، هو المترجم الأول، الحرفي، الذي يقدم اقتراحاتٍ متعدّدة للعنوان، ولمفردات النص، إذا ما كانت تحتمل أكثر من تأويل، وهو ما ظهر في دورة هذا العام التي استضافت فيها الورشة، لأول مرة، شعراً عربياً، حيث كنتُ برفقة شعراء (لينا الطيبي، عارف حمزة، محمد المطرود، رائد وحش، لينا عطفة)، في لفتة إلى أن الشعر السوري قد أصبح (جاراً) للشعر الألماني الذي مثله في ورشة هذا العام كل من، يواخيم سارتوريس، دوروثيا غرونزويج، بريجيتا اولشينسكي، كريستوفر بيتر، جوليا ترومبيتر، يان فاغنر. وقام بالإعداد للورشة وترجمة القصائد الأستاذ في جامعة غيرمارشايم/ غوتنبرغ، المصري محمود حسنين، بمساعدة شبابٍ سوريين يدرسون اللغة الألمانية في الجامعة نفسها، أما الفكرة الأساسية من الورشة فهي أن يقضي الشعراء الألمان مع الشعراء الضيوف زمناً يتعرّفون به على ملامح من شخصية كل شاعرٍ، كي يتمكنوا من استبطان الثقافة والصفات التي تختفي في النص الشعري، بحيث يتم فعلاً إلصاق النص بكاتبه، لينزع في نهاية الورشة عنه، حين ينتهي الشاعر المضيف من إعادة صياغته برؤيته الشعرية الشخصية والخاصة، ويقدّم لجمهور المدينة باللغة الألمانية، وبصوت الشاعر المضيف الذي يفترض أن يكون محملاً بشحناتٍ شعوريةٍ وعاطفية مستمدة من النص الذي صاغه أخيراً، فالصياغة هنا كتابة جديدة للنص، بلغةٍ ورؤيةٍ شعرية جديدتين.
والأهم، بأحاسيس جديدة، تستطيع الكشف عن شخصية الشاعر الصائغ، ليظهر جوهر الشعر واضحاً وجلياً، نائياً بنفسه عن الحرفنة الباردة البعيدة عن الشغف، أو عن الموهبة المتواضعة التي لا تصنع شعراً، تجربة خاصة في العلاقة مع الشعر تقدّمها ورشة (جيران) في إيدنكوبن الألمانية، تشبه خاصية المدينة الصغيرة نفسها، المدينة التي تتقطر نبيذاً صافياً، كما تتقطر قصيدةٌ مدهشةٌ من قلب شاعر.